الثورة الزراعية التي لم تتم.. «نحن قلعة حصينة لا يخترقها أحد، فسورية لديها اكتفاء ذاتي، وتمتلك أمنها الغذائي»
لا تنسب هذه المقولة إلى شخص بعينه، ولكن يمكن أن ننسبها إلى مقولات حكماء جهاز الدولة في سورية، وهي تحمل جوهراً صحيحاً، ونظرة استراتيجية، وتعبر بشكل واضح عن عقلية تربط الوطني والسياسي بالاقتصادي- الاجتماعي.. وفي مرحلة ما لم يكن هذا كلاماً يقال وإنما انعكس فعلاً، في السياسة الزراعية وتحديداً المتعلقة بالمحاصيل الاستراتيجية، التي يأتي القمح في مقدمتها،
وهو الذي يعتبر عنواناً للأمن الغذائي، وربما عنوان رئيسي في الزراعة السورية. ففي سورية استصلحت مساحات واسعة من الأراضي، خططت الزراعة وتم الدفع نحو الزراعات الاستراتيجية، ونظمت عملية الدعم بحيث دعمت المراحل المتنوعة، ابتداء من دعم البذار والسماد، إلى دعم الوقود الضروري في المزارع المروية، وصولاً إلى ضمان شراء المحاصيل الاسترتيجية، والأهم إخراج الحلقات الوسيطة أي التجارية في علاقات إنتاج الزراعات الاستراتيجية، فالدولة هي الداعم الوحيد وهي التاجر الوحيد في هذا المجال..
ولكن..!! هناك دائما لكن، ربما عدم جذرية أو اكتمال «الثورة الزراعية» في سورية، كان أحد العوامل الاقتصادية الأساسية التي أدت إلى انحدار«النموذج الاقتصادي السوري»، وهو المصير المشترك لأغلب نماذج التنمية المشابهة، التي رفعت في مرحلة ما شعار «الاشتراكية»، دون أن تقترب منها، إلا شكلياً.. فتجربة التعاونيات بقيت محصورة، وتفتيت الأراضي الزراعية لم يتم تداركه، والمساحات التي كانت تستصلح وتتزايد بقيت ثابتة، ومستوى الإنتاجية، الذي يعبر عنه المستوى التكنولوجي، من حيث الآلات أو من حيث الأنواع لم يشهد تبدلات جدية خلال ثلاثة عقود، ومشاريع ري كبرى وواعدة بقيت مشاريع موعودة..
كل هذا ولم ينحدر بعد الخط البياني لإنتاج القمح السوري، ولكن كان واضحاً بأننا نحتاج إلى نقلة نوعية في مستوى التخطيط والاهتمام بهذه الزراعة الاستراتيجية، ولكن مع بداية الألفية، ومع ارتفاع صوت الليبراليين ليعبروا عن الفساد الذي ضاق زرعاً بمعيقات من نوع بقايا دعم الزراعة، أتى التحول النوعي في القمح السوري، لنشهد تراجعاً في المساحات المزروعة، وتراجعاً في كميات الإنتاج، وتراجعاً في المخزون الاسترايجي من القمح، بأرقام تتفاوت من عام لآخر ولكن بخط بياني منحدر، واليوم وصلنا إلى إعلان من نوع تراجع كميات القمح المنتجة بمقدار 40 %.. أي ما يقارب النصف!!
أي أن سورية وبعد أكثر من أربعة عقود في سياسة «القمح والأمن الغذائي»، تخسر اليوم ما يقارب نصف إنتاجها من القمح!!
لم تستطع هذه السياسة أن تحمي القمح من غلاة «الدفاع عن موارد الدولة»، عندما قرروا أن يسلبوا المزارعين والزراعة السورية، أهم أدوات قوتها، وهو دعم الحكومة لحلقات إنتاجية هامة، ولم تستطع هذه السياسات أن تحاسب من كان في موضع المسؤولية، ولم يتم التعامل بجدية ومسؤولية وطنية تليق بظاهرة خطيرة من نوعها، وهي الهجرات الكبيرة من المناطق الشرقية، والأراضي المتروكة..
كان من المتوقع لأي مراقب مسؤول لواقع زراعة القمح وغيرها، أننا سنصل إلى تراجع في إنتاج القمح، وتغير في عقلية القمح باعتباره محصولاً اقتصادياً واجتماعياً، حيث بدا واضحاً انسحاب الدولة من دورها الإنتاجي والاجتماعي، مقابل دخول السوق بأشكال متنوعة إلى هذا القطاع، سواء بشكل مشروع، عبرت عنه زيادة الظاهرة القديمة وهي استثمار الأراضي الزراعية، وتأجيرها، للمزارعين الكبار، مقابل حصص ضئيلة للفلاحين، كشكل للعلاقات الرأسمالية في هذا القطاع، أو بالشكل غير المشروع وهو دخول سماسرة وتجار الفساد إلى حلقات التوزيع، عوضاً عن الدولة، وشرائهم للقمح والمحاصيل الاسترايجية من الفلاحين و سياسة «غض النظر» من الدولة، وما هو أبعد من هذا وذاك.
الزراعة نقطة انطلاق
لربما ما افتقدته الزراعة السورية، أو «اشتراكية» العقود الماضية ككل، هو إعطاء الزراعة حقها وموضعها الطبيعي، وهي منصة انطلاق في عملية النمو، وتلقائياً في مجتمع فلاحي كانت ستشكل منصة تنمية.. وعلى الرغم من «النفخ الكبير» بأهمية الزراعة، إلا أن ثورتنا الزراعية لم تتم، ومحاصيلنا، كانت تنتج ويعاد إنتاجها، دون أن تحمل معها مع كل دورة مستوى أعلى اقتصادياً واجتماعياً، والنقطة الغائبة هنا هي انتقال الموارد الزراعية نحو تحولها لمدخلات صناعية، تعود لتخدم الزراعة والصناعة معاً..
فالقمح كمدخل في الصناعة لم يدخل سوى في صناعة الدقيق، وتحديداً في مؤسسات الدولة الصناعية، حيث تنتج المطاحن العامة فقط الدقيق التمويني، أي المعد لإنتاج الخبز فقط..القمح السوري ميزة نسبية للسوريين، لم نحسن استثمارها، ولم نستطع حتى أن نحميها من التراجع، ونتمنى الآن أن يبقى رغيف الخبز المدعوم محمياً من يد الفساد التي تتوحش، ربما لأنها لحظاتها الأخيرة...