1 فن التحول.. تعالوا إلى كلمة سواء
د. منير الحمش د. منير الحمش

1 فن التحول.. تعالوا إلى كلمة سواء

بداية لابد من الإشارة إلى أن التعامل مع الواقع، لايعني الاستسلام لهذا الواقع، وإلا لما حصل أي تقدم للبشرية، ولما قامت حضارة، فالتقدم والحضارة، لم، ولن يتحققا بالاستسلام للواقع، بل إنهما يتحققان بالعمل والنضال، لتجاوز هذا الواقع وتطويره أو الانقلاب عليه. والفرق كبير بين (الواقعية)، التي تأخذ بالاعتبار معطيات الواقع لتطوره ولتبني عليه، وبين (الوقوعية) التي تتهالك أمام ضربات وصدمات الواقع، ولا تملك سوى (الانسحاق) تحت هذه الضربات والاستكانة للصدمات، وتتلذذ بالبحث عن الممكن، وبالإذلال الذي تزرعه (الوقوعية) على الطريق، ضاربة عرض الحائط، كبرياء وشموخ التسلح بالواقعية، لتتجاوزها، إلى واقع أرحب وأكثر أماناً.

هذه المقدمة القصيرة، كان لابد منها، قبل الدخول إلى أصل الموضوع، وهو طرح شعار (دعه يعمل.. دعه يمر)، الذي عفى عليه الزمن، والذي لم يطبق كما هو منذ رفعه في منتصف القرن الثامن عشر. وهذا ما سأحاول عرضه باختصار شديد:

طرح هذا الشعار (المذهب) «دعه يعمل.. دعه يمر» من خلال الاهتمام الذي أولاه (آدم سميث) في منتصف القرن الثامن عشر، لمشكلتين استأثرتا باهتمامه:

المشكلة الأولى: طرحها من خلال تساؤله عن النظام الذي يحفظ تماسك المجتمع، وكيف يمكن لجماعة، يسعى فيها كل فرد من أفرادها لتحقيق مصلحته الذاتية، ألا تتفكك وتنهار؟ وعن الشيء الذي يسترشده، كل فرد في عمله الخاص، بحيث يكون متفقاً مع حاجات المجتمع بأسره؟

هذه الأسئلة قادت (سميث) لاكتشاف وصياغة قوانين السوق، فاستخدم تعبير (اليد الخفية) التي بمقتضاها تسير (مصالح الناس) الخاصة في الاتجاه الأكثر نفعاً للمجتمع، والأكثر اتفاقاً مع مصلحة المجتمع.

أما المشكلة الثانية: فهي في الإجابة على سؤال: إلى أين يسير المجتمع؟ وهنا أيضاً يجد الإجابة في قوانين السوق، فالمصلحة الذاتية تقوم بدور القوة المحركة، التي توجه الناس إلى أي عمل يريد المجتمع أن يدفع ثمنه.

فالسوق في هذه الحالة تنظم الأثمان (كجهاز ثمن) وتنظم كميات السلع (العرض) وفقاً (لطلب) مجموع المستهلكين، وتخلق السوق التوازن بين جميع هذه العناصر. فإذا ما أراد أحدهم أن يتمادى ويتجاوز المستويات التي يقررها المجتمع، تحركت قوى السوق لتعيده إلى صوابه، فالسوق بهذا المعنى هي ذروة الحرية الاقتصادية الفردية، فإذا قام الفرد بما لا ترضى عنه السوق، فإن الخراب الاقتصادي سيكون ثمناً للحرية الفردية.

أطلق (سميث) على هذه السوق التي تسودها المنافسة الكاملة (عالم المنافسة الذرية) بمعنى العالم الذي لن يكون فيه أي جزء من الجهاز الإنتاجي (العمل أو الرأسمال) من الكبر إلى الحد الذي يجعله يتدخل في الضغوط الناشئة عن المنافسة أو يقاومها.

وهذا يعني أن (سميث) اشترط لسيادة قوى السوق، ونجاح مقولة (دعه يعمل.. دعه يمر) سيادة حالة المنافسة الكاملة، بمعنى عدم السماح بظهور حالات من الاحتكار، مهما كانت، وفي ضوء ذلك دعا إلى إطلاق قوى السوق دون أية عوائق، مما يستتبع عدم تدخل الدولة في الشؤون الاقتصادية، (لأن أفضل حكومة بنظره، هي التي تقلل من التدخل في شؤون السوق وأمور الناس)..

وقادت هذه النظرية إلى مذهب الحرية الاقتصادية وما يدعى (الاقتصاد المرسل) وعدم التدخل الحكومي ورفع الحواجز الجمركية بين الدول، على أن تقوم آليات السوق بتصحيح الخلل الذي يمكن أن يبرز، مع التأكيد على أن قيام السوق بدورها في تأمين مصلحة المجتمع مرهون بفعل قانون المنافسة.

إلا أن الممارسات العملية في السوق، قادت إلى غير ما توقع سميث وأنصار الحرية الاقتصادية، فقد أدت إلى بروز حالات من الاضطراب والأزمات من خلال ما دُعي بالدورات الاقتصادية التي كانت تعصف بالاقتصاد وتؤدي إلى البطالة والركود. فتزداد الفوارق الطبقية بين فئة مالكة احتكارية، محدودة العدد، وفئة فقيرة لا تملك، كثيرة العدد، وكان سميث (أبو الليبرالية الاقتصادية) قد حذّر من ذلك حين قال: (لا يمكن بالتأكيد لأي مجتمع أن يكون مزدهراً أو سعيداً إذا كان القسم الأكبر من أفراده فقيراً وبائساً).

إن السوق، كنظام للتبادل، وكجهاز للثمن، ولتفاعل العرض والطلب، في ظل المنافسة الذرية (الكاملة) ووفقاً لما دعى قوانين السوق، وفي ضوء مقولة (دعه يعمل.. دعه يمر)، لم توجد مطلقاً!! فالحرية انقلبت إلى نوع من (الداروينية) حيث الصراع الطبيعي والبقاء للأقوى (والأصلح)، والمنافسة قادت إلى الاحتكار، وبالتالي فإن الحرية الاقتصادية التي أعطاها (سميث) للفرد في السوق ليحقق مصلحته، وبالتالي مصلحة المجتمع، إنما هي حرية وهمية، قادت إلى تقييد حرية الأغلبية، وأطلقت العنان لمصالح القلة وأدت إلى شيوع الاستغلال، وأصبحت قيداً على حرية الفرد، وأشاعت الفوضى والحروب بين الشعوب.

يعلمنا التاريخ الاقتصادي، على أن حالة الحرية الكاملة لقوى السوق، ويدها الخفية، لم تكن سوى حالة نظرية لا وجود لها إلا في أذهان الفلاسفة الذين نادوا بمذهب (دعه يعمل..).

إن السوق القائمة على مذهب (دعه يعمل..) اقتصاد تتحرر فيه السوق من الضوابط، وتصبح خارج إمكانية السيطرة السياسية أو الاجتماعية، هذه السوق الحرة، لم تكن موجودة يوماً، وكانت الدولة دائماً تعمل من أجل قوة اقتصادها، فتتدخل، إلى هذا الحد أو ذاك، في الشأن الاقتصادي لضمان حالة التوازن في السوق، وتوقف حالات الخلل والاختلال.

ولطالما استخدمت الدولة، في الدول الصناعية المتقدمة، قوتها العسكرية لضمان استمرار تدفق المواد الأولية إلى معاملها، وإيجاد الأسواق لتصريف منتجاتها. وتوضح ذلك في تنافس الدول الاستعمارية، خاصة في القرن التاسع عشر، على أسواق المستعمرات، وعلى مصادر المواد الأولية. وكلما ازدادت قوة الدولة، وتوسع اقتصادها، ارتفعت أكثر فأكثر مناداتها بحرية السوق، وإزالة القيود على حركة السلع والبضائع ورأس المال. فهي إذ تتدخل في السوق الداخلية لمصلحة رأس المال، فإنها تنادي خارجياً بالانفتاح والأسواق الحرة والاندماج بالاقتصاد العالمي، ما يزيد من تراكم رأس المال ويعزز سلطانه الخارجي ويدعم نفوذه الداخلي.

وعندما وصلت انكلترا في منتصف القرن التاسع عشر إلى موقعها في قمة الهرم العالمي، سعت إلى تفكيك الأسواق ذات الجذور الاجتماعية العميقة التي سبق أن عرفتها، والتي كانت تأخذ باعتبارها المحافظة على التماسك الاجتماعي، وخلقت مؤسسة جديدة هي السوق الحرة، من خلال نمط جديد في الاقتصاد، يتم فيه إطلاق حرية التبادل وحرية الأسعار دون اعتبار لآثار ذلك على المجتمع. وقد دعي هذا التحول باسم «التحول الكبير» الذي تمت من خلاله عملية تدمير الأسواق الاجتماعية والاستعاضة عنها بأسواق متحررة من الضوابط تعمل بصورة مستقلة عن الاحتياجات الاجتماعية، وقد تلازم ذلك مع وصول انكلترا إلى أوج قوتها الاقتصادية والعسكرية، فعملت أيضاً على تعميم سياسة الانفتاح التجاري والاقتصادي ونادت بتحرير التجارة الخارجية وإلغاء الحماية وبقيام سوق عالمية واحدة، تمت فيهاعملية التقسيم الدولي للعمل على أساس جائر ولمصلحة الدول الصناعية وعلى حساب شعوب المستعمرات فيما وراء البحار.

وبعد أن تولت الولايات المتحدة زعامة الدول الصناعية المتقدمة والمعسكر الرأسمالي، أخذت على عاتقها المناداة بالسوق العالمية الواحدة والرأسمالية الديمقراطية التي ستفرض على النطاق العالمي، بالتالي لن تكون هناك حاجة للثقافات والأنظمة المتعددة، إذ ستندمج ثقافات الأمم والأنظمة المتعددة في سوق عالمية واحدة في إطار (العولمة) حيث تحل المؤسسات الدولية والشركات متعدية الجنسية محل الدولة، ويطلق العنان لقوى السوق العاتية بالعمل دونما ضوابط، وتسود في هذه الحالة قيم السوق وأخلاقياتها المنضوية تحت لواء القيم الأميركية، فتطغى على كل ما عداها من قيم وثقافات وطنية.

وتم تقديم برنامج هذا (التحول) إلى الدول الاشتراكية السابقة والدول ذات التوجه التدخلي، ضمن ما بات يعرف بـ(وفاق واشنطن)(2)، بهدف إجراء (التحول) نحو اقتصاد السوق، والاندماج بالاقتصاد العالمي، والالتحاق بالعولمة (قبل فوات الأوان)، جرى الترويج لهذا البرنامج بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، إذ اعتُبر ذلك انتصاراً تاريخياً حاسماً للرأسمالية، وأُعلن عن (نهاية التاريخ)(3).

وسعت الولايات المتحدة، بعد أن أصبحت (زعيمة) العالم، بما تمتلكه من قوة عسكرية ضاربة واقتصاد قوي إلى فرض جدول أعمالها على دول وشعوب العالم، مستعينة في ذلك بالمؤسسات والمنظمات الدولية التي تسيطر عليها، لتُقيم امبراطوريتها العتيدة من خلال استراتيجيتها الاستباقية باستخدام القوة العسكرية المدمرة (أو التهديد باستخدامها)، معلنة حربها الطويلة على الإرهاب، بادئة بشن الحرب على أفغانستان ومن ثم احتلال العراق، بغطرسة وعجرفة غير مسبوقة مليئة بالأحقاد واحتقار ثقافات البشر ومعتقداتهم. وبدلاً عن الازدهار الموعود والديمقراطية المنشودة، زرعت البؤس والفقر والدمار أينما حلت، وفرضت حيثما استطاعت، جدول أعمالها الاقتصادي والثقافي في إطار ما دعته الشرق الأوسط الكبير أو الواسع، وفي حين استطاعت تحقيق بعضاً من أهدافها في تفتيت العراق وتفكيكه واحتلاله، فقد واجهت ممانعة واسعة لمشروعها من شعوب المنطقة، وقد تبلورت هذه الممانعة رسمياً في الموقف السوري الذي صمد في مواجهة الضغوط الأميركية، والموقف الأوروبي المنافق بفضل تمسك الشعب العربي السوري بحقوقه، ودعمه للمقاومة اللبنانية والفلسطينية والعراقية وبفضل التعبير الصادق للقيادة السياسية عن متطلبات شعبها. وقد انكسرت موجة العولمة الطاغية المعاصرة تحت وطأة الأزمة المالية والاقتصادية التي نشبت في أيلول عام 2008، كما ولّد برنامج (وفاق واشنطن) الأزمات والكوارث الاقتصادية أينما حل، وبدأت الأنظمة الرأسمالية التقليدية العتيدة تُعيد النظر بسياساتها الاقتصادية والمالية، وبدأ المفكرون الاقتصاديون يبحثون ويدرسون ما حصل، وتداعت الدول إلى مشاورات ومناقشات في إطار التكتلات الاقتصادية القائمة، وعلى مستوى الدول ذاتها. وبدأ الحديث حتى داخل الولايات المتحدة عن أهمية وضرورة إعادة النظر بالنظام الرأسمالي القائم، ووصل الأمر إلى حد مناداة الرئيس الأميركي السابق (بوش الابن) في آخر عهده دول (مجموعة العشرين) للمشاركة في إدارة الاقتصاد العالمي. كما بدأنا نسمع عن (الرأسمالية الجديدة) (4) وعن دور جديد للدولة يُعيد الاعتبار إليها، وعن وضع ضوابط وأنظمة ورقابات لحركة الأسواق المالية.

في أجواء (انكسار العولمة الاقتصادية) وإعادة النظر بالسياسات الاقتصادية والمالية المنفلتة، والمناداة بضبط حركة الأموال وبدور جديد للدولة، يصل إلى حد المناداة بتملكها وإدارتها للمنشآت الاقتصادية والمالية، في هذه الأجواء، ومع الاستمرار في حالة الأزمة الاقتصادية والمالية العالمية التي سببتها السياسات الاقتصادية والمالية غير المنضبطة. تبرز في سورية توجهات جديدة (يبدو وكأنها لم تستفد من تجارب الماضي، ولا من دروس الأزمة الراهنة)، وخلافاً لما قررته القيادة السياسية بالتوجه نحو اقتصاد السوق الاجتماعي، وتتمثل التوجهات الجديدة في أمرين رئيسيين:

الأول: يبرز من خلال السياسات الاقتصادية والمالية والتجارية الليبرالية المتطرفة، التي أدت، وتؤدي، إلى تسليم القطاع الخاص مقاليد قيادة الاقتصاد الوطني، وتؤكد انسحاب الدولة من الشأن الاقتصادي والتجاري، ومحاباة الأغنياء على حساب الطبقة الوسطى والفقيرة.

أما الأمر الثاني: فهو تلك الأصوات التي يطلقها بعض الاقتصاديين (والمؤسف أن بعضهم من المنتمين إلى حزب البعث العربي الاشتراكي ومن الذين كانوا يحسبون على التيار التقدمي) تلك الأصوات التي بدأت همساً، ثم تعالت برفع شعارات ليبرالية متطرفة من قبيل (دعه يعمل.. دعه يمر) بحجة أن طوفان العولمة والليبرالية الاقتصادية أصبح طاغياً، ومن غير الممكن مخالفة التيار. ومن هنا برزت (فلسفة) فن الممكن، أي إعلان الاستسلام لقوى السوق، ولإغراءات ووعود وأوهام الليبرالية الاقتصادية الجديدة، والرضوخ لمنطق المؤسسات الدولية وبرنامج (وفاق واشنطن). بحجة أن لا سبيل آخر وتحت أوهام (واقعية الاستسلام).

والغريب، أن هؤلاء، ينسون، أو يتناسون، أن تحولهم هذا يعني عملياً، التخلي عن تاريخهم النضالي، وعن أهداف وطموحات ومبادئ أوصلت (الحزب) والتيار القومي التقدمي إلى السلطة، وأن طريق التخلي عن الأهداف والطموحات والمبادئ، يعني إخلاء المكان، فالقطاع الخاص والتجار ورجال الأعمال الجدد والقدماء، لن يكتفوا بقيادة الاقتصاد الوطني، بل أنهم لابد وأن يحصلوا أيضاً على القيادة السياسية. وإن قبلوا (الآن) بالمشاركة مع من ارتضى بمشاركتهم، فإن ذلك سيكون إلى حين، أي إلى الوقت الذي يتمكنون ويطبقون بأيديهم على القرار ين الاقتصادي والسياسي.

ستبرز من خلال هذا المشهد، مجموعة من التناقضات والصراعات والنزاعات، مما يهدد السلم الاجتماعي الذي حرص (البعث) على تحقيقه:

أولاً: ستبرز التناقضات داخل النظام الاقتصادي والسياسي، بين المؤيدين للسياسات الاقتصادية الجديدة، والمعارضين لها، وستدور نقاشات هامة داخل الحزب حول المسار الاقتصادي للحزب، والتحولات الجارية على الصعيد العملي والتي تتعارض مع التوجهات الأساسية لمسيرة النضال الحزبي.

ثانياً: ستبرز الصراعات داخل (قطاعات) رجال الأعمال والقطاع الخاص، بين رجال الأعمال التقليديين، ورجال الأعمال الجدد، وهي صراعات مصالح لكنها جدية ولها أساس، وستكون لها مظاهر مدمرة لبعضهم، في حين ستتصاعد حدة المزاودات فيما بينهم حول المسار الاقتصادي مما سيكون له انعكاسات سيئة على الاقتصاد الوطني.

ثالثاً: وهذا هو الأهم، سيبرز التناقض الاجتماعي الناجم عن الحراك الاجتماعي الجاري لمصلحة الفئات الغنية، فأهم نتائج السياسات الاقتصادية والمالية الليبرالية، هو أنها تهدد التماسك الاجتماعي، وتحدث أضراراً جدية بالسلم الاجتماعي. فضلاً عن ذلك فسيثير التغير في السلوك الاقتصادي (والاستهلاكي منه بوجه خاص) نوازع السعي نحو الربح والاستغلال والاحتكار، دونما أي رادع، مما سيزيد من فجوة الخلافات الفئوية، ويُعلي من شأن أصحاب الثروات والدخول الاستثنائية، ويزيد من معاناة الفئات المتوسطة والفقيرة ويحط من شأنها، مما يولد المزيد من الأحقاد والضغائن بين فئات المجتمع، وعدا عن ذلك، ففي هذه الأجواء، يطغى السلوك الاستهلاكي وتعظيم هدف الربح مما يؤدي إلى إعلاء شأن الأعمال الهامشية والسمسرة والجريمة على حساب العمل المنتج.

إن هذه التناقضات التي تزداد بروزاً وحدة، مع السير قدماً، بالسياسات الاقتصادية الليبرالية الجديدة، هي ما تريد الولايات المتحدة (وإسرائيل) والاتحاد الأوروبي تحقيقه، بالاستعانة بالمؤسسات الدولية والشركات متعدية الجنسية، باستخدام المروجين لأفكار العولمة وأنصار اقتصاد السوق من المنتفعين بالداخل، وهم جميعاً يهدفون إلى إضعاف الاقتصاد الوطني، وإضعاف الدولة بالتالي، بهدف إضعاف القوة التفاوضية للدولة تجاه متطلبات الخارج، ومصالح الخارج.

إن الإرادة السياسية، مطلوبة وضرورية، فهي التي تعزز استقلالية القرار الاقتصادي والسياسي، إلا أنها بحاجة مستمرة إلى تعزيز قوة جناحيها: الاقتصاد والقوة العسكرية. ولهذا فإن كل ما يؤدي إلى إضعاف أحد الجناحين، فإنه يقود إلى التأثير على الإرادة السياسية، وبالتالي على القدرة التفاوضية للدولة تجاه الخارج، وما يرسم ويخطط لنا في الخارج، ولاشك فإن التصدي لذلك يكون أجدى وأقوى عندما نمتلك القوة التفاوضية القادرة على الصمود والتحدي.

والسؤال الآن، ما هي السياسات الاقتصادية والمالية والتجارية، التي تعزز قوة الاقتصاد الوطني؟ وبالتالي تعزز القوة التفاوضية للدولة تجاه الخارج؟

هل سياسة (دعه يعمل.. دعه يمر) يمكن أن تقود إلى قوة الاقتصاد، أم أنها إضعاف للاقتصاد بما تخلقه من أجواء الاستغلال والاحتكار وفوضى وعبث بشؤون المال والعباد؟ هل إزالة الحدود والقيود على حركة البضائع والأموال والعمال، قوة للاقتصاد أم إضعاف له؟ هل اتساع الفجوة بين من يملك وبين من لا يملك، قوة للاقتصاد أم إضعاف له؟ هل تسليم بنيتنا التحتية للشركات الخاصة تحت ادعاء التشاركية، قوة للاقتصاد أم إضعاف له؟ هل سحق الشرائح الوسطى تحت سياط الغلاء قوة للاقتصاد أو إضعاف له؟ هل زيادة جيش العاطلين عن العمل قوة للاقتصاد أم إضعاف له؟ هل تولي أصحاب المصالح الخاصة من رجال الأعمال مهمة قيادة الاقتصاد الوطني، قوة للاقتصاد أم إضعاف له؟ هل القبول بمشورة المؤسسات الدولية قوة للاقتصاد أم إضعاف له؟

إن التحول إلى اقتصاد السوق، من خلال الطرح (المتذاكي) الذي يقول بأن هذا هو الحل (الممكن) في ظل التحولات والتغيرات الحاصلة على الصعيد الدولي، إنما يعني بكل بساطة، إضافة إلى ما ذكرنا من إضعاف لقوة الاقتصاد، وعدم تمكينه، سيؤدي إلى تغيير الحامل الاجتماعي للنظام السياسي، من الحامل المنصوص عنه في الدستور وفي أدبيات حزب البعث العربي الاشتراكي ودستوره، وفي اتفاق تشكيل الجبهة الوطنية التقدمية، إن هذا الحامل هو: العمال والفلاحون وصغار الكسبة والعسكريون وأصحاب الدخول المحدودة، والبورجوازية الصغيرة، في حين أن الحامل الاجتماعي لاقتصاد السوق، اقتصاد (دعه يعمل.. دعه يمر) هو رأس المال ورجال الأعمال الجدد. (فضلاً عن مروجي العولمة ومستشاري المؤسسات والخبراء المستوردين من الخارج). فهل هذا التحول يقود إلى قوة الاقتصاد، أم إلى إضعافه؟ هل سيقود إلى تعزيز القرار السياسي أم إلى إضعافه؟ هل سيقود إلى تعزيز قدرتنا التفاوضية تجاه ما يطرح علينا من مشاريع من الخارج، أم سيؤدي إلى إضعافها؟

تلك هي المسألة.. إنها كلمة سواء.. عسى أن تقود إلى إعادة النظر والمراجعة، خاصة والبلاد على أعتاب انعقاد المؤتمر القطري الحادي عشر والإعلان عن الخطة الخمسية الحادية عشرة.

الحواشي:

1 - في 24/ 8/ 2010، كتب د. محمد سماق، وهو عضو في حزب البعث العربي الاشتراكي، ومعاون وزير الصناعة، مقالاً في جريدة الثورة. بعنوان «فن الممكن». ومقالتي هذه ليست رداً مباشراً على مقالة د. سماق، الذي أعتز بعلاقة الصداقة التي تربطني به، وإنما هي لطرح موضوع فكري وعملي حول مقوله «دعه يعمل.. دعه يمر» والتحول الذي يشهده الاقتصاد السوري بموجب هذه المقولة، وما يمكن أن يكون قد جرى من (تحول) في فكر وممارسة بعض من كان يحمل لواء الاشتراكية، ثم تحول إلى اقتصاد السوق الاجتماعي، وها هو يُعلن ولائه لحرية حركة رأس المال، ويُسلم بقيادته للاقتصاد الوطني.

2 -  (Washington Consensus) وهو برنامج يتضمن مجموعة السياسات والتوصيات والمبادئ التوجيهية، التي تم التوصل إليها بين صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وحكومة الولايات المتحدة، ومقر هذه الأطراف الثلاثة العاصمة الأميركية واشنطن. وأهم توجهات البرنامج:

ـ حكومة الحد الأدنى، أي أقل تدخل من جانب الدول في السوق.

ـ التثبيت الاقتصادي ـ خفض الإنفاق الحكومي ـ خفض الضرائب على الأغنياء.

ـ الخصخصة، ودعم الأسواق الحرة. وقيادة القطاع الخاص للاقتصاد.

ـ تحرير التجارة الخارجية.

وجوهر هذا البرنامج هو الليبرالية الاقتصادية الجديدة.

3 - عبر عنه المفكر الأميركي الياباني الأصل فوكوياما، في كتابه الشهير (نهاية التاريخ)، حيث تراجع فيما بعد عن مقولته.

4 -  في كانون الثاني 2009 عقد في باريس مؤتمر اقتصادي شارك فيه ساركوزي وميركل وبلير، ورؤساء الدول الإفريقية وبعض الخبراء والمفكرين الاقتصاديين وكان شعار المؤتمر (عالم جديد ـ رأسمالية جديدة). وقد هيمنت على أعمال المؤتمر الأزمة الاقتصادية، وأوضح ساركوزي أن أحد أهداف الرأسمالية الجديدة إقامة عالم جديد (أي اقتصاد سوق اجتماعي جديد) ذي أبعاد عالمية.