رؤية مغلوطة أم ملغومة؟ «سعر الصرف أولوية.. والدعم هو السبب»..!
مجموعة من المتغيرات السريعة في الاقتصاد السوري خلال الفترة القريبة الماضية، ترافقت مع مجموعة من التصريحات والتخبطات والتسريبات، لتشير بأن "طبخة" اقتصادية ما.. تجهز، واستحقاقات توضع على طاولة النقاش والصراع، في "مطابخ السياسة الاقتصادية"
ارتفعت أسعار الصرف بخط متصاعد، لتسجل كل يوم تقريباً رقماً قياسياً جديداً كان آخره حتى تاريخ كتابة المقال 140 ليرة مقابل الدولار تقريباً، هذا الاتجاه التصاعدي ترافق في الأسبوع الأخير بمعلومات عن تعويم الليرة، مقابل تصريحات إنكار وعدم توضيح من البنك المركزي كما سبقتها في الفترة الماضية تسريبات لوثائق حكومية وضحت أن الدعم مستهدف بخطط "هيئة تخطيط الدولة"..
سنناقش المقترحات الحكومية التي تبدأ من مشكلة سعر الصرف وتنتهي برفع الدعم، من حيث أولوية سعر الصرف، والرؤية الاقتصادية التي تبرر استهداف الدعم من خلاله، من حيث صوابيتها اقتصادياً وسياسياً..
موارد حكومية ضرورية.. ليست للدعم؟!
لم تعلن الجهات الحكومية الداعية لرفع الدعم عن ذرائع، ولكن القديم الجديد المستخدم في هذا السياق هو مشكلة "نقص الموارد الحكومية" ويضاف لها اليوم بداعي الإلحاح والتأكيد: "في ظل الأزمة"..
نبدأ من المفارقة البسيطة في هذه المقولة العامة أي "رفع الدعم نتيجة نقص الموارد في ظل الأزمة" فإذا ما كانت الحكومة تعاني من نقص في الموارد فإن الهدف من رفع الدعم هو تعويض هذا النقص أو تخفيف "هدر" الموارد الحكومية والسؤال: إلى أين تنوي المبالغ الموفرة أن توجّه؟ إذا ماكان الدعم أي إنفاق الحكومة على دعم المواد الاستهلاكية وعلى جزء من مستلزمات الإنتاج الرئيسية مستثنى؟! .. وإذا ما أضيفت مقولة "في ظل الأزمة" فإن المفارقة تصبح أشد لأن الأزمة تفرض تحديداً محاولة توجيه الموارد الحكومية نحو الدعم، وزيادة الحاجة إلى الدعم الحكومي، حيث تتحول الموارد الحكومية والبحث عن سبل لزيادتها ضرورة وهذا الجانب المحق، ولكن ضرورة لتقديم الدعم تحديداً، وضرورة في ظل زيادة الحاجة إلى دعم كامل وليس جزئياً عن طريق تخفيف "حدة التضخم" فقط، وإنما إغاثة كاملة لملايين من المواطنين بلا دخل أو مأوى..
أولويات غير منهجية
ينتقل البعض في تبرير رفع الدعم في ظل الأزمة إلى ضرورات وأولويات اقتصادية قائمة على الربط بين مفردات السياسة النقدية والمالية بطريقة أقل ما يمكن أن يقال عنها.. "خاطئة"
حيث تتصدر أخبار سعر الصرف وارتفاعاته وقيمة الليرة مقابل الدولار تصريحات المعنيين، واهتمام الأكادميين وغيرهم.. حيث يعتبر "واجهة الاقتصاد السوري" كما ترغب الجهات الرسمية أن تسميه.. ليعكس ذلك "الخطأ المنهجي" في قراءة مشاكل الاقتصاد السوري وأولوياته، و القراءة السطحية لمشكلة ارتفاع سعر الصرف ذاتها..
لا بد أن ارتفاع سعر الصرف الذي يعكس تراجع قيمة الليرة السورية هو مشكلة اقتصادية تمس جميع المفاصل الاقتصادية، ولكن أين موقعه في سلسلة الأزمة هل هو سبب أم نتيجة؟ وهل هو المعيار أو جرس الإنذار الذي يتطلب إجراء تغييرات في السياسة الاقتصادية الكلية؟
الرؤية "الملغومة"..
لا بد أن الدافع الحقيقي لأخذ سعر الصرف كأولوية وكمعيار للتأزم يستوجب تغييرات جدية في السياسة الاقتصادية، ينطلق من معيارين أحدهما مباشر والآخر غير مباشر:
1- المباشر: ارتباط سعر الصرف الحاسم مع القوى الاقتصادية الأكثر قوة وتأثيراً، حيث يشكل ارتفاع سعر الصرف ضغطاً على "أصحاب الأعمال" من تجار أولاً وصناعيين ثانياً ويؤدي لزيادة كلف الاستيراد عليهم، مقابل تراجع قدرة السوق المحلية على التجاوب مع ارتفاعات الأسعار، بالتالي محدودية قدرة هؤلاء على تحميل التكاليف المرتفعة على الأسعار الداخلية، كل هذا يشكل عامل الضغط المباشر الذي يدفع نحو ترتيب مشكلة سعر الصرف في مقدمة المشاكل الاقتصادية خلال الأزمة.
2- غير المباشر: إن الفائدة الكبرى التي تحققها عملية "حماية الليرة" ومنع سعر الصرف من الارتفاع التي تتمثل في سياسة البنك المركزي بضخ القطع الأجنبي الاحتياطي للمحافظة على سعر الصرف عند مستوى معين تؤدي بشكل واضح إلى انتقال تدريجي للاحتياطي الدولاري إلى السوق السوداء لتزيد من قدرتها على التحكم لاحقاً بسعر الصرف عن طريق "ضب الدولار" وزيادة الطلب عليه، والمضاربة على قيمة الليرة..
إذاً فإن مصلحة القوى الاقتصادية الكبرى "المخفية" تلعب دوراً في استمرار سياسة أولوية المحافظة على سعر الصرف عن طريق هدر الاحتياطي..ونقل الوزن الأساسي للقطع من ملكية الدولة إلى ملكية "السوق".
المعالجة "الملغومة"
وضع سعر الصرف كأولوية إذاً يرتبط بمصلحة قوى اقتصادية كبرى "المشروعة منها وغير المشروعة" ولكن طرق المعالجة المطروحة تؤكد بالحد الأدنى غياب أي معيار اقتصادي- اجتماعي- سياسي ضمن معايير التأزم لدى الجهات المقترحة (كالأجور الحقيقية على سبيل المثال) وبالحد الأعلى تشير طرق المعالجة إلى استهداف واضح للدعم، بحد ذاته..
إن معالجة مشكلة ارتفاع سعر الصرف التي يقترح البعض أن تتم برفع الدعم وتخفيفه (كما تشير المقترحات الحكومية) تسير وفق المنطق الموضح في الشكل السابق:
حيث أن منع ارتفاع سعر الصرف، يعني منع تراجع قيمة الليرة السورية، وبالتالي معالجة التضخم، والذي يتطلب تخفيف عجز الموازنة الحكومية التي يشكل الدعم نسبة 37 % منها، بالتالي لا بد من تخفيف الدعم..!!
ثغرات كبرى
هذه العلاقات الخطية بين المعطيات التالية، يشوبها الكثير من "التسطيح"، فإذا تجاهلنا مدى صوابية وضع سعر الصرف كهدف أولي، وانتقلنا إلى فكرة أن ارتفاع سعر الصرف لا بد يتعلق بشكل رئيسي بتراجع قيمة العملة السورية الحقيقية، والتي يعتبر التضخم وارتفاع الأسعار وجهاً من وجوهها، فإن الانتقال من التضخم نحو عجز الموازنة هو الخطأ المقصود..
هل التضخم وبالتالي تراجع قيمة الليرة ناجم عن عجز الموازنة، بالتالي تقتضي حماية الليرة وإيقاف الاتجاه التصاعدي لسعر الصرف تخفيف عجز الموازنة؟؟
هنا تكمن نقطة الخلل في هذه الرؤية الظاهرية لمشكلة قيمة الليرة السورية في ظل الأزمة..
ونناقش العلاقة بين التضخم وعجز الموازنة في المادة اللاحقة....
«قل لي أين تنفق.. أقل لك ما الحل..»
عجز الموازنة هو المفردة المالية التي تربط ما بين سعر الصرف "كمشكلة نقدية" وبين استهداف الدعم كطريقة للحل. لا بد إذا من مناقشة عجز الموازنة وكيف يؤدي إلى التضخم وهل مبلغ الدعم إذا ما خفف يؤدي إلى تخفيف التضخم..!
ينجم عجز الموازنة عن تراجع الايرادات العامة مقابل متطلبات الإنفاق العام، والإيرادات السورية قدرت في موازنة 2013 بمبلغ 634 مليار ل.س، يقابلها موازنة بمقدار 1380 مليار ل.س تقريباً أي بعجز يقدر بحوالي 53%، ومبلغ يقارب 740 مليار ل.س.
تمويل العجز بالإصدار النقدي
إن تمويل عجز الموازنة يتم بالإصدار النقدي في سورية، ولا يتم عن طريق الاستدانة من الداخل أو الخارج.. بل عن طريق طباعة النقد حصراً، وهذه العملية تؤدي فعلاً إلى ربط بين عجز الموازنة وبين التضخم بشكل مباشر.. فزيادة الإصدار النقدي تؤدي إلى اختلال بين الكتلة النقدية والكتلة السلعية ليؤدي فائض الكتلة النقدية إلى تراجع في قيمة النقد المحلي، وبالتالي تراجع قيمة الليرة.. حيث تتضح هذه العلاقة خلال الأزمة بشكل واضح لتدل على أن تراجع الكتلة السلعية بمقدار 50% تقريباً ترافق مع تراجع في قيمة الليرة السورية بمقدار يزيد عن 100% وذلك بسبب زيادة في الكتلة النقدية الموجودة في السوق السورية، وزيادة الطباعة الناجمة عن تمويل عجز مقداره حوالي 750 مليار ل.س..
إذاً العلاقة التي من المفترض تعميقها على الشكل التالي:
عجز الموازنة تمويل بالإصدار النقدي زيادة الكتلة النقدية التضخم
التضخم
تدل على أن العلاقة بين عجز الموازنة والتضخم، تتعلق بفائض الكتلة النقدية بالتالي تقتضي أن يؤخذ بعين الاعتبار عند تخفيف عجز الموازنة أن يستهدف نوع الإنفاق الذي يرتبط بشكل مباشر بزيادة الكتلة النقدية بلا أثار إيجابية على الكتلة السلعية أو مستوى الأسعار.
معايير للإنفاق "اللا تضخمي"
لتخفيف عجز الموازنة ينبغي تخفيف الإنفاق الأكثر ارتباطاً بالتضخم، أي الذي يزيد من الكتلة النقدية ولا يساهم في زيادة الكتلة السلعية مقابل "عدم الاقتراب" من الإنفاق الذي يساهم في زيادة الكتلة السلعية أي تحريك الإنتاج والتشغيل بالمستوى الممكن كمعيار أولي، والذي يستهدف المستوى العام للأسعار ويمنعه من الارتفاع مشكلاً داعماً للأجور الحقيقية، وأداة كبح لأسعار السوق، كمعيار ثاني.
حيث ينبغي توجيه الإنفاق الحكومي نحو نوع الإنفاق الذي يخفف من الميل التضخمي الحتمي لعجز الموازنة، وهو الذي يحقق معيارين اثنين..
إنفاق يزيد الكتلة السلعية
يعتبر الإنفاق الاستثماري الإنفاق الرئيسي الذي يزيد من الكتلة السلعية بمعناها العام، وبدقة أكثر الإنفاق الذي يساهم في زيادة الإنتاج والتشغيل، لذلك فإن عمليات تخفيضه خلال الأزمة من 375 مليار عام 2012 إلى 275 مليار عام 2013 تساهم في زيادة الميل التضخمي لعجز الموازنة وللأموال المنفقة.
الدعم كذلك يدخل ضمن الإنفاق الذي يزيد من الكتلة السلعية عن طريق تغطيته لجزء من تكاليف الإنتاج والزراعي منها تحديداً بالإضافة إلى الوقود كمدخل رئيسي في عمليات الإنتاج (عن طريق كلف الوقود المستخدم مباشرة أو تعرفة الكهرباء بالإضافة إلى كلف النقل)
إنفاق يكبح ارتفاع الأسعار
يعتبر الدعم الإنفاق الرئيسي المساهم في منع ارتفاع المستوى العام للأسعار إلى حد بعيد حيث بتدخله في تحديد أسعار الطاقة (الوقود والكهرباء) يساهم بوضح سعر أساس للمدخل الأساسي في كلف إنتاج كافة المواد وجزء رئيسي من الاستهلاك المنزلي الضروري.
ودخوله عن طريق دعم الإنتاج الزراعي وبعض المواد الأساسية كالخبز يساهم في وضع قاعدة تبتعد عنها أسعار السوق ولكنها تبقى قاعدة ضرورية ومثبتة لجزء من الدخل الحقيقي.
الدعم قاعدة تثبيت الأسعار
توضح المعايير أن الدعم هو الإنفاق الذي يخفف من الميل التضخمي لعجز الموازنة.. وكل المعادلة الموضوعة مغلوطة، وتؤدي إلى مفعول عكسي لهدفها. واستهداف الدعم الحكومي في هذه اللحظات ومن موقع تخفيض عبء عجز الموازنة وتخفيض التضخم، هو خطوة لن تؤدي سوى إلى التضخم وتراجع قيمة الليرة وبالتالي ارتفاع سعر الصرف.
حيث إن إزالة قاعدة السعر الأساسية التي يحققها الدعم بتثبيته النسبي لمدخلات ومواد استهلاكية رئيسية، هي جوهر الدعم المطلوب إعادة تمركز الدعم حوله.
أي توجيه الدعم نحو زيادة قاعدة التثبيت السعرية عن طريق زيادة عدد المواد الاستهلاكية الرئيسية التي يشملها الدعم، وتحقيق ذلك عن طريق دعم إنتاجها، أو استيرادها من قبل الدولة وتأمينها بسعر مدعوم. ليحقق الدعم بذلك استخدام الكتلة النقدية الفائضة لزيادة الكتلة السلعية..
ومقترح رفع الدعم وتحويل جزء منه إلى مساهمة نقدية تزيد من الأجور الاسمية هو أكثر المقترحات ابتعاداً عن تحقيق الدعم لجوهره الضروري للأسباب التالية:
1- من الناحية العملية من المستحيل تأمين إيصال المبالغ النقدية في فترة الأزمة الحالية.
2- تحويل الدعم إلى نقد يؤدي إلى زيادة الكتلة النقدية وزيادة الفائض.
إزالة الدعم يعني تحرير كامل لأسعار السوق، وإزالة الاستفادة من ميزة الدعم الحالي الذي يشكل قاعدة تثبيت بالحد الأدنى لأسعار جزء هام من المستلزمات الأساسية.
الدعم المستهدف.. أبعد من الاقتصاد
لطالما عملت قوى الفساد على استهداف الدعم كأحد الموارد "الحكومية" للنهب، وأعاقت تأديته لدور مثبت الأسعار (وجزء هام من الدخل الحقيقي) بحصولها على "حصة الأسد" من المشتقات النفطية على سبيل المثال واحتكارها لترفع السعر. أما تخليها اليوم عن هذا الجزء بدعمها لمشروع رفع الدعم فهو يعني تخليها عن صغار الناهبين "مافيات المازوت والغاز... " باتجاه موارد أهم قد تكون النفط والاحتياطي بشكل أساسي.. وأبعد من ذلك فإن مشروع "الحفاظ على سعر الصرف عن طريق رفع الدعم" يحقق جملة من الأهداف الاقتصادية والسياسية فهو أولاً ينقل الاحتياطي السوري الهام إلى يد قوى السوق مساهماً بإضعاف كبير لدور الدولة الاقتصادي، وهو بالتالي إشارة للقوى الليبرالية في الداخل السوري وفي الخارج بالسير نحو القطع النهائي مع نموذج سوري بدور اقتصادي اجتماعي للدولة.. وهو مفصل في مسيرة الأحداث السورية اليوم وقد يكون الشعرة الأخيرة التي تفصلنا عن توتر سياسي أعلى ودور هامشي للدولة..
بدائل..
مؤشرات التنمية السورية المتراجعة، مع عدم استمرار عملية توليد النمو واتجاهها المتذبذب وميلها المتراجع خلال عقود تدل على أن النموذج الاقتصادي السوري المتبع يحوي الكثير من الثغرات، حيث أن معدلات النمو في سورية لم ترتق إلى مستوى حل المشاكل المنتصبة أمام الاقتصاد الوطني هذا النمو لم يفض إلى تنمية قادرة على تأمين متطلبات المجتمع المادية والروحية بالشكل المطلوب، وهذا يعود إلى جملة مسببات تفصيلية ولكنها تندرج تحت تشوهين أساسيين أولهما يتعلق بالموارد وسوء توزيعها عن طريق انحراف توزيع الدخل لمصالحة الأرباح الشرعية منها وغير الشرعية عن طريق الفاقد الكبير في الموارد الناتج عن الفساد بشكل أساسي والتهرب الضريبي بشكل جزئي، والثاني يتعلق بانخفاض معدلات النمو أصلاً وضآلة القيم المضافة بسبب الاعتماد على القطاعات الخدمية وعدم تفعيل الموارد المتاحة بشكل جيد.
النموذج الذي اعتمد على المزايا النسبية للاقتصاد السوري لم يستطع أن يستفيد من كامل مكامن القوة في هذه المزايا، ولم يفكر بالبحث عن مجموعة المزايا المطلقة التي قد تحقق للاقتصاد السوري قيما مضافة مضاعفة. في هذا المتسع من جريدة قاسيون سنعمل على طرح مفاصل من قطاعات الإنتاج الحقيقي السوري التي تحوي إمكانيات نمو وتطور غير مفعلة، مستفيدين من أبحاث ودراسات سابقة.