دعم الأغنياء، أم دعم الفقراء؟
الليرة السورية تتدهور قيمتها الحقيقية، والتدهور تعكسه ارتفاعات أسعار السلع التي لا تعود للانخفاض، وتخرج عن ضبط علاقات السوق والإنتاج، أي حجم العرض وحجم الطلب، بينما تتعلق اليوم بشكل أساسي بكمية النقد المتضخمة والتي تتخم السوق السورية، والمنفلتة من عقالها، فلا ضابط علمي منهجي، ولا شفافية في التعبير عنها وقياسها، مجرد قانون تشريعي يتيح الطباعة «عندما تتطلب السوق».
هذه السياسة التي تبدو عشوائية، وتنم عن جهل اقتصادي، نتائجها تتطلب التدقيق في مدى كونها تنم عن الجهل أم لا؟!!
فالكتلة النقدية المتضخمة وللمفارقة تلتهم نقوداً أخرى.. فهي تقضي على القوة الشرائية لليرة السورية، وبالتالي على الدخل الحقيقي للسوريين وعلى مستوى معيشتهم، والأسعار المرتفعة هي الأداة..حيث يضطر المواطن السوري إلى دفع نقود أكثر ليحقق نفس المستوى من الاستهلاك، وهي خسارة بدخله، إلا أنها زيادة في دخل صاحب السعر المرتفع.
وبالمقابل يلاحظ أن السلعة الوحيدة التي تبقى ثابتة ولا ترتفع، هي قوة العمل، التي تعبّر عنها الأجور، فالأجور الثابتة وهي دخل الأغلبية، تعتبر الخاسر الأكبر، يسحب التضخم منها قدرتها على سد الحاجات، محولاً هذه الخسارة إلى زيادة في دخل أصحاب الأرباح، بكافة تلويناتهم.. ولعل هذا يوضح كون التضخم ضريبة يدفعها الفقراء للأغنياء..
صناعة التضخم قائمة على سياسة دعم الأغنياء:
التضخم الذي يفيد أصحاب الربح، بشكل أساسي، ينفذه أصحاب الربح، وكل سياسة تقود للتضخم، تعكس مصالحهم، وينفع هنا التذكير ببعض إجراءات الحكومات السابقة، عن طريق إيجازها ببعض المقولات «المأثورة» ليبرالياً:
«تثبيت الأسعار شوه الاقتصاد السوري، ولابد من التحرير كسياسة تناسب انفتاح سورية الاقتصادي». وتم تحرير كامل تقريباً لأسعار السلع.
«الدعم الحكومي عبأ، وعلى الدولة أن ترشد من إنفاقها، وتحديداً على دعم الطاقة.» وتم رفع أسعار الطاقة ومواد أساسية متعلقة بالإنتاج.
«لابد من تشجيع الاستثمار، بكافة أشكاله وأنواعه، وتحفيزه، وذلك بإعفائه من الضرائب.» وقد تم استقطاب الاستثمار العقاري والسياحي وتمليكه وإعفاؤه.
اتفق على أن الحكومات السابقة قد مارست سياسات اقتصادية، أدت إلى ترد كبير في النشاط الاقتصادي في سورية، وهو ما تدل عليه أرقام النمو الضعيفة، مقابل أرقام البطالة الكبيرة، ولكن ما لا توضحه الأرقام، هو مستويات الأرباح الكبيرة، مقابل مستويات المعيشة المتآكلة، يقول الكثيرون، إن حكوماتنا الاقتصادية السابقة وتحديداً حكومات الأعوام من 2000 وحتى الآن لم تمتلك منهجاً اقتصادياً واضحاً، ونوافق شكلياً مع أصحاب هذا القول، إلا أننا نقول، نعم ولكن!! لنعبر عن اختلافنا معهم، حول مضمون هذا اللا وضوح واللامنهجية في السياسة الاقتصادية والتي تحوي سياسة مقصودة بشعار مضمر وغير معلن وهو دع الأغنياء يزدادوا غنى، فهم قاطرة النمو.. إلا أن الواقع أثبت أن هذا النمو الناتج عن غنى الأغنياء، ليس نمواً في الثروة العامة، وإنما هو نمو لأرباحهم، فهم لم يسرقوا ما أنتجوا، وإنما سرقوا ما نملك، وما أنتجنا سابقاً، وطباعة النقود العشوائية كانت سياسة ممنهجة تؤدي إلى تغطية هذه السرقة الكبرى من موارد السوريين..
أما الآن..
يحتار أصحاب الشأن والمهتمون اليوم، أمام الوضع القائم، ويعود ذلك إلى أن جميع السياسات المعتادة تحمل أثراً سلبياً، ولأن الوضع يتطلب تحقيق انقلاب عميق في السياسات الاقتصادية، باتجاه سياسات تبتعد عن مصالح أصحاب الربح، والأغنياء، وهي السياسة السائدة طويلاً والتي لا يتوقعون وجود القدرة على الانتقال إليها..
يجب وقف منطق الأغنياء قاطرة النمو، فكل ما يمكن أن يقر من سياسات لدعمهم، سيؤزم الوضع أكثر، ضخ الأموال العشوائي «وتحديداً في السوق السوداء للعملة»، تخفيف الضرائب، التحرير «وتشجيع المنافسة»، كلها سياسات لن تدفع أصحاب الربح إلى زيادة التشغيل وزيادة الإنتاج، لا بل ستزيد من قدرتهم على التحكم بالأسعار، والسحب من أصحاب الأجور، وتسريح العمال، والمضاربة على الليرة، فالطرف الآخر من عملية الإنتاج معطّل، وهو القدرة على الاستهلاك والإنفاق..
سياسة استنزاف الأجور، عطلت جانب الطلب بشكل جدي، ويحتاج إقلاع العجلة الاقتصادية اليوم إلى ضخ وتشغيل، ولكن باتجاه واضح ومحدد، هو دعم الفقراء، أي إعادتهم إلى النشاط الاقتصادي، بعد أن أخرجوا منه، سواء كعاملين همشتهم البطالة، أو كمستهلكين، فقدت أجورهم وعملتهم الوطنية قيمتها.
ربما يبدأ ذلك بالتراجع عن إجراءات سياسة دعم الأغنياء، فترفع الضرائب على أرباحهم، وتثبت الأسعار التي تركت تحت رحمتهم، ويعاد الدعم إلى مستحقيه، وإلى المجالات الحيوية التي كان يوضع بها.
أما الأهم الذي يضمن عدم ولادة التضخم، وإعادة النهب «المشرعن»، هو العودة إلى أساسيات العلم الاقتصادي، التي يفتقرها الاقتصاد السوري، وهي كتلة نقدية واضحة ومحددة، وقائمة على حاجة الاقتصاد السوري، وزيادتها تعكس زيادة إنتاجيته ونموه فقط، ولا تترك عشوائية، لان خلف هذه العشوائية تكمن سياسة السحب من الأجور للأرباح، وتكمن سياسة دعم الفساد.