عقد البوزلان بـ«إسمنت طرطوس»: استغلال للعلاقات الخاصة.. وسرقة /70/ مليوناً من المال العام
لم يكن عقد «فرعون» قصة الفساد الأولى داخل شركة أسمنت طرطوس، كما لن يكون عقد «البوزلان» الفضيحة الأخيرة من المسلسل ذاته، فمن اعتاد على استغلال عقد واحد لمصلحته الخاصة، لا شك أنه سيستغل عشرات العقود لاحقاً كيفما استطاع، وفي جعبة مصادرنا الكثير مما يقال عن ملفات النهب الممنهج للمال العام داخل هذا المرفق العام، والذي بات مستباحاً بين أيدي ثلة من الفاسدين، فلا حسيب ولا رقيب عليهم، والأخطر على هذا الصعيد، أن هناك من هو قادر على تغطية فساد هؤلاء للإمعان في نهبهم..
حلقة فساد جديدة
تبدأ قصة عقد البوزلان بتاريخ 31/12/2012، حين تمت دعوة العارض محمد ديبو لحضور الاجتماع من مدير شركة الأسمنت، وبشكل مفاجئ، على الرغم من أنه ليس العارض الأساسي الذي تقدم لمناقصة البوزلان، بل إن مصطفى السالم هو العارض الأساسي، وتم الطلب من ديبو تقديم سعره النهائي لأجرة نقل طن البوزلان من مقالع المناخر بالرقة إلى معمل أسمنت طرطوس، وقال المدعو ديبو في حينه، إن هناك أزمة في تأمين مادة المازوت، وما من منفذ للحصول عليها سوى السوق السوداء، مما سيزيد تكلفة النقل، إلا أن الهدف الأول من وراء كل تلك المقدمات، هو استغلالها لزيادة قيمة العقد، وهذا ما جرى بالفعل، بعد أن تم رفع سعر نقل الطن في العقد الحالي بمقدار خمسة أضعاف قياساً بالعقد الذي سبقه، وبزمن فاصل لا يزيد عن بضعة أشهر بين العقدين..
تجاوز القوانين والأنظمة
تقدم العارض ديبو بكتاب يبين فيه أنه على استعداد لنقل طن البوزلان الواحد من مقالع المناخر بالرقة بقيمة /700/ ل س إذا ما أمّنت شركة أسمنت طرطوس كميات من المازوت يومياً (650 لتراً)، أما في حال الرفض، فإنه لن يستطيع نقل طن البوزلان بأقل من /1350/ ل س، (ولكن الوثيقة استبدلت بوثيقة أخرى بعد الاجتماع)، وأبدى مدير عام شركة الأسمنت (رئيس اللجنة الإدارية) المهندس علي جوهرة في الاجتماع ذاته عدم القدرة على تأمين المازوت، وبذلك وصل الفارق في حال إبرام العقد على أساس / 700 / ل س لنقل الطن، إذا ما جرى تأمين المازوت من الشركة وفق قيمة العقد 50000 × (1300- 700 )= 30 مليون ليرة سورية، وهو ما حصل بالفعل، فهل هذا الفارق تافه؟!
طلب المدير العام من المدعو ديبو تقديم سعره النهائي، وقام الأخير بتقديم السعر دون أن يُطلَب منه تقديم الوكالة من العارض الأصلي مصطفى السالم، والتي تؤهله القيام بمثل هذه الأعمال بالنيابة عنه، على اعتبار ديبو ممثلاً عن العارض المرشح، وتجاهل مدير شركة الأسمنت بدوره طلب الوكالة على الرغم من أهمية الموضوع وقيمته الكبيرة، وترك هذا العديد من الشكوك والريبة حول حقيقة العلاقة التي يرتبط بها ديبو بمدير عام «الأسمنت»، وخلال الاجتماع قرر المدعو ديبو تخفيض قيمة أجرة نقل طن البوزلان بقيمة /50/ ل س إلى /1300/ ل س..
لم تنته القصة هنا ، بل إنه وفي مخالفة صريحة وواضحة للقوانين والأنظمة، توجه المدير العام لديبو قائلاً له: «يمكنك المباشرة بتنفيذ العقد اعتباراً من 1/1/2013»، أي قبل توقيع العقد فعلياً، ودون اتخاذ كل الإجراءات القانونية للإبرام، وعلى ما يبدو، فإن العلاقة الوثيقة بينهما جعلته يخرق كل القوانين والأنظمة في هذه الحالة، وفي حالات لاحقة..
رفع أجرة النقل 500%
بناءً على كل تلك المقدمات، وافقت اللجنة الإدارية على التعاقد مع العارض «مصطفى السالم» لنقل كمية 50 ألف طن بوزلان من مقالع المناخر بالرقة، وبأجرة نقل /1300/ل. س للطن الواحد، لتصل القيمة الإجمالية للعقد إلى نحو 65 مليون ل.س، إلا أن قيمة العقود السابقة لأعمال نقل كانت أقل من الرقم الحالي بكثير، حيث كانت أجرة نقل طن البوزلان من مقالع تل دكوة بريف دمشق بالعقد السابق (قبل توقيع عقد المناخر بالرقة) /275/ ل.س، ولكمية 100 ألف طن، والموقّع في عام 2011، والذي استمر تنفيذه خلال عام 2012، أي أن المتعهد عاصر جزءاً من أزمة المازوت، كما عانى من صعوبات في النقل حينها، ولكن المشكلة كانت بإغلاق المقلع بسبب الظروف الأمنية في منطقته، لذلك تم الانتقال لتأمين المادة من مقالع المناخر بالرقة، أي أن اجرة النقل بموجب العقد الموقع مع مصطفى السالم قد ارتفعت بنسبة 500% تقريباً..
استغلال العلاقات الشخصية
بدأ المدعو محمد ديبو باستغلال علاقته الشخصية بمدير عام شركة الأسمنت، عبر السماح بنقل البوزلان من مقلع المناخر بالرقة، قبل توقيع العقد 3/2013 مع مصطفى السالم، والذي لم يبرم بشكل أصولي، ولم يُعط أمر المباشرة إلا بتاريخ 23/1/2013 وذلك بعد أن تم استكمال إجراءات التعاقد، وبعد أن اعتذر مكتب الدور بطرطوس عن نقل الكمية المطلوبة.
3000 ليتر قبل توقيع العقد
الغريب في الموضوع أن يقوم مدير عام «أسمنت طرطوس» بإعطاء كميات من المازوت للمدعو ديبو من كازية الشركة لتعبئة شاحناته بحجة تنفيذ العقد ذاته قبل أن يبرم بشكل أصولي، وبما يخالف المعطيات المتوفرة أمام اللجنة الإدارية، والذي حصل على 3000 ليتر في الشهر الأول من عام 2013 قبل دخول العقد حيز التنفيذ، كما استمر المدعو ديبو في الحصول على كميات المازوت خلال فترة التنفيذ دون تخفيض اجرة نقل طن البوزلان، ودون الأخذ بعين الاعتبار أن العارض «ديبو» أبدى استعداده لتخفيض أجرة نقل الطن بقيمة /700/ في حال تأمين كميات من المازوت بالسعر الرسمي (650 لتر يومياً)، وقد كان ديبو يستلم كميات المازوت اللازمة والمرسلة للشاحنات من أمام إدارة الشركة، وبعلم المدير العام، وبموافقة محافظ طرطوس، ولكن، لما تراخى مدير عام شركة الأسمنت مع المدعو ديبو؟! ولماذا تم صرف مبالغ نقدية كسلف مالية بعشرات الملايين كقيمة أجرة نقل عن هذا العقد؟! وذلك قبل أن يتم إبرام العقد 3/2013 وخارج الأصول القانونية والعقدية..
إنه لزمن العجائب، فمدير عام شركة الأسمنت يطبق مقولته التي يرددها دائماً بأن «القانون كالحمار يحتاج إلى من يديره»، وهو يتباهى بأنه يخرق القوانين بحجة «كسر الروتين»، حتى لو أدى ذلك إلى الاستهتار وسرقة المال العام، وسوء استخدام للسلطة المؤتمن عليها، ولذلك نضع هذه التجاوزات برسم الجهات الرقابية والمعنية لتقوم بما يمليه عليها الواجب الوطني؟!
إثبات دامغ
ما يثبت حقيقة التجاوزات التي تحدثنا عنها في عقد مادة البوزلان، لجهة أن محمد ديبو ومصطفى السالم كانا أول المستفيدين من العقد، بالإضافة إلى أنهم استخدموا علاقتهم القوية مع مدير عام شركة الأسمنت لتمرير العقد بحالته الراهنة، هو كتاب محافظ طرطوس، والموجه إلى شركة الأسمنت في نهاية الشهر الأول من عام 2013، والذي يبين حصول متعهد عقد البوزلان (محمد ديبو) على كميات من المازوت لسياراته يومياً قبل دخول العقد حيز التنفيذ، وبما يخالف شروط العقد التي تتحدث عن تخفيض سعر نقل الطن إلى 700 ل.س في حال حصول المتعهد على كميات من المازوت، وهذا إثبات آخر على ما تحدثنا به في بداية التحقيق..
إلا أن المفاجأة كانت في الرد الشخصي لمدير عام «أسمنت طرطوس» على كتاب المحافظ، دون أن يحال الكتاب من جانب المدير العام إلى مديرية الرقابة الداخلية للتحقيق في هذا الموضوع، كما تفترض الآلية المؤسساتية، إلا أن مدير شركة الأسمنت اعترف في رده على المحافظ، بأن سيارات النقل التابعة لديبو قد حصلت يومياً على كميات من المازوت قبل دخول العقد حيز التنفيذ، ودون تغيير تكاليف نقل الطن إلى 700 ل.س، بينما يعتبر مصطفى السالم هو المتعهد الأساسي للعقد، بالإضافة إلى دفاع مدير شركة الأسمنت في الكتاب ذاته عن المذكورين في شكوى المحافظ، معتبراً أن البوزلان مادة أساسية في استمرار عمل الشركة، والحقيقة أن البوزلان مادة مضافة مساعدة لطحن الأسمنت، ويمكن الاستغناء عنها لأن هدفها ربحي بالدرجة الأولى، كما أن دفاع مدير شركة الأسمنت عن هؤلاء العارضين يزيد الشكوك حول علاقته المشبوهة بهم، فهو الحريص على مصلحتهم، والذي يغض الطرف عن تجاوزاتهم على حساب المال العام..
بعكس المنطق الطبيعي
تلت قصة العقد الأول عقود أخرى، حيث توقف ديبو عن استكمال تنفيذ العقد بعد نقله ما يقارب 22 ألف طن بوزلان، وبتاريخ 28/2/2013 اطلعت اللجنة الإدارية بالشركة على الكتاب المقدم من المتعهد رقم 1276 بتاريخ 30/1/2013، حيث تبين أن مقالع الرقة قد توقفت عن العمل نتيجة الأوضاع الأمنية، وأشار المتعهد ديبو في كتابه إلى أنه على استعداد لنقل الكميات المتبقية من العقد رقم 3/2013 لنقل وتفريغ /50000/ طن بوزلان من مقالع تل شيحان بالسويداء، وبالسعر نفسه المحدد بالعقد والبالغ /1300/ ل س كأجرة لنقل الطن بدلاً من مقالع المناخر بالرقة، إلا أن المديرية التجارية في شركة الأسمنت، ذكرت بأن تغيير موقع التحميل سيعني تغييراً في شروط العقد، لأن هناك تغييراً في تكلفة النقل، فالمسافة بين مقالع تل شيحان بالسويداء وطرطوس أقل بنحو /103/ كيلو متر مقارنة بمقالع الرقة، ولذلك اقترحت المديرية التجارية، أن يتم تأمين باقي الكميات من العقد بالاتفاق مع المتعهد إذا كان هناك ضرورة وحاجة لذلك، أو أن يتوقف العقد، وأن يجري التوجه للإعلان عن مناقصة لنقل الكمية المتبقية من عقد البوزلان من مقالع تل شهاب بالسويداء، وقررت اللجنة الإدارية أن يتم إجراء مراسلة مع مكتب الدور مع عدد من العارضين بهدف تنفيذ الكميات المتبقية من العقد 3/2013 (نحو 28 ألف طن بوزلان) للحصول على أسعار أنسب وأقل..
تعديل مشبوه للعقد
أقدم مدير عام «أسمنت طرطوس» بتعديل مشبوه للعقد، فبعد أن قامت المديرية التجارية بإرسال كتاب للمديرية الفنية لتحديد الكميات المتبقية، ووضع دفتر الشروط الفنية من أجل مراسلة العارضين، جاء الجواب على المراسلة عن طريق المدير العام طالباً (أن تتم المراسلة لتأمين 100 ألف طن بوزلان بدلا من /28/ألف طن الواردة بقرار اللجنة الإدارية)، وعندما أشارت «التجارية» مرة أخرى للمدير العام بأن قرار اللجنة الإدارية هو لتأمين الكميات المتبقية، أجاب المدير العام للمرة الثانية بأن تتم المراسلة لتأمين 100 ألف طن بوزلان، على أن يعرض الموضوع مستقبلاً على اللجنة الإدارية، ولكن السؤال: لماذا يقوم المدير العام بخرق قرار اللجنة الإدارية قبل أن يجف الحبر عنه؟! ولما يحدد الكمية الجديدة بـ 100 ألف طن بوزلان بدلاً من 28 ألف طن دون أخذ موافقتها أو حتى عرض الموضوع عليها؟! الحقيقة أنه «حسب السوق عم يسوق»، فساعة يعرض أتفه المواضيع على اللجنة الإدارية بما يخدم مصلحته الشخصية، وعندما يريد إخفاء شيء ما يقول بأنه سيعرضها مستقبلاً، كما حدث مع هذا الكتاب، وتعديل كميات البوزلان المنقولة، والسؤال: من هو صاحب المصلحة الحقيقية في تعديل الكمية؟! ومن المنتفع الأول من هذا التعديل؟!
أساليب جديدة للنهب
وبناءً عليه تم إجراء مراسلات مع العارضين للمرة الأولى، ولم يتقدم أحد من العارضين، حتى أن العارض الأساسي ديبو الذي تقدم بكتاب أنه على استعداد لنقل الكميات المتبقية من مقلع السويداء، وبسعر نقل طن البوزلان نفسه بموجب العقد في حينها (1300 ل.س) لم يتقدم لهذا العرض! وعندها اقترحت لجنة المناقصة أن يتم إعادة المراسلة للمرة الثانية، ووافق المدير العام على ذلك، وتمت مراسلة عدد من العارضين لنقل 100 ألف طن بوزلان من مقلع تل شيحان بالسويداء، وتقدم عرض وحيد (عبد القادر دقماق)، وبسعر /2300/ ل س للطن الواحد، وخفض السعر بمقدار /25/ل.س أمام لجنة المناقصة، والتي اقترحت عرض الموضوع على اللجنة الإدارية لدراسته وإقرار المناسب أمام هذا الارتفاع في السعر، ولكن لم تذكر بمحضرها السعر المقدم من متعهد العقد 3/2013 الذي أبدى استعداده لنقل الكمية المتبقية بسعر عقده نفسه ( 1300 ل س على الطن)..
لم تجرِ الرياح كما يفترض منطق الأمور، ولم يتم التعاقد بعروض نقل أقل، فالقصة كانت مدبرة على ما يبدو، والتفاصيل متفق عليها بين الأطراف الشريكة في سرقة المال العام، ورفع سعر نقل الطن البوزلان لعدم وجود العارضين، ونترك القضية مقترحاً على طاولة التدقيق والمحاسبة من الجهات الرقابية..
«الإدارة».. ومسرحيتها الهزلية
تم عرض الموضوع أمام اللجنة الإدارية، وتمت دعوة العارض عبد القادر دقماق أو ممثل عنه، حيث طلب منه المدير العام بأن يساعد في تخفيض سعره، وأن يقدر الظروف الحالية، ليكرر المسرحية الهزلية نفسها من حرصه على الشركة، وعلى إنتاجها، وعلى أن انتاج عام 2012 قد انخفض بسبب نقص البوزلان، وهذه كذبة كبيرة، لأن الإنتاج الأساسي هو من مادة الكلينكر..
وأخيراً، رق قلب العارض الجديد الذي سأله المدير العام عن علاقته بديبو، فقال العارض الجديد إنه لا يعرفه، ولكن في اجتماع آخر وبحضور الاثنين (ديبو ودقماق) لم يتذكر المدير العام ذلك، فقال ضمن تمثيليته طالباً من ديبو أن يعرفه على دقماق وقام ديبو بتعريفه عليه أمام الحاضرين..
خسارة 70 مليون ل.س بعقد واحد
خفّض العارض الجديد سعره «كرمى عيون» مدير عام «أسمنت طرطوس» ليصبح سعر نقل الطن /2000/ل.س، وبزيادة 54% عن العقد السابق الموقع في نهاية الشهر الأول من عام 2013، ووافقت اللجنة الإدارية على التعاقد، متجاهلة قرار نقل الكمية المتبقية (28 ألف طن) من العقد السابق 3/2013، والذي أبدى متعهده الاستعداد لنقلها بسعر 1300 ل.س للطن، ورغم أن ديبو أبدى في الاجتماع ذاته استعداده لمساعدة دقماق في نقل كميات عقد الـ 100 ألف طن، كما لم يتم ذكر أسباب تعديل كميات العقد ورفعها إلى 100 ألف طن، ليلاحظ أن الفرق الذي تسبب به المدير العام من خلال إدارته بشكل شخصي لهذا الموضوع، هو خسارة /700/ ل.س للطن الواحد عن المعروض سابقاً، أي أن الفرق في السعر بين العارض السابق والحالي بالنسبة لنقل الكمية الاجمالية البالغة 100 ألف طن يصل إلى 70 مليون ل.س..
كما أن هذا التعاقد كان مستغرباً، لأن هناك مخزوناً حالياً من البوزلان يصل إلى /43/ ألف طن، وهو يكفي لتغطية الإنتاج لما يقارب ستة أشهر، بالإضافة إلى أن مادة البوزلان لا تدخل بشكل أساسي في تكوين منتج الأسمنت البورتلاندي، وإنما هي عبارة عن مواد مضافة لا تخضع لأي عملية سوى الطحن، فالغاية الأساسية منها ربحية ومساعدة الطحن، فلماذا هذا الاستعجال في إبرام العقد الجديد؟! وبهذه الكميات؟! وبهذا السعر المرتفع؟! كلها أسئلة لا نجد إجابات شافية عنها، ولا نشتم منها سوى رائحة المنفعة الشخصية لمدير شركة أسمنت طرطوس، ومن الأجدى وضع السؤال والإجابة في عهدة الجهات الرقابية والوصائية المعنية؟!