سنوات الازمة تعرّي سياسات الخصخصة.. وتثبت الحاجة للقطاع العام القوي

سنوات الازمة تعرّي سياسات الخصخصة.. وتثبت الحاجة للقطاع العام القوي

كان الدفاع عن شركات القطاع العام في وجه سعي أصحاب القرار الاقتصادي لخصخصته وتصفيته بعد عام 2000، وحديثنا عن سياسة التخسير قبل الخصخصة في السابق، يُنّسَبُ إلى «نظرية اقتصادية اشتراكية صدئة» على حد زعم منتقدينا، فالقطاع العام -بحسب هؤلاء- رحل زمانه مع سقوط المنظومة الاشتراكية إلى غير رجعة

إلا أن تجربة سنوات الازمة الثلاث أثبتت دون أدنى شك، أن الدفاع عن هذا القطاع قد كان بمكانه، فعندما تمادى التجار في استغلالهم وجد السوريون في مؤسسات التدخل الإيجابي ما يسعفهم نسبياً، وعندما توقف 90% من المداجن في القطاع الخاص عن التربية، قررت المؤسسة العامة للدواجن تحمّل عبء تأمين نسبة كبيرة من حاجة السوق المحلية من البيض والفروج رغم خسائرها الكبيرة، وعندما طرد القطاع الخاص مئات الآلاف من عماله على امتداد السنوات الثلاث السابقة، وشرد مئات آلاف الاسر، وهو من استغلهم أيام النشاط الاقتصادي أبشع استغلال، حافظ القطاع العام على عمالته..

من زمن ليس بالبعيد، وتحديداً في شهر أيلول من عام 2013، اقترحت وزارة الصناعة تصفية عدد من شركات ومعامل الصناعات الغذائية العامة، كخطة لما بعد الخروج من الأزمة، بحجة أن التصفية هي الوصفة السحرية لتطوير نشاط هذا القطاع، كتصفية شركة زيوت حماة ومعمل الليرمون في حلب، ومعمل بيرة بردى، ووحدة كونسرة الميادين، وشركتي ألبان دمشق وحلب، وغيرها من الشركات والمعامل الغذائية العامة، وهي خطة ليست بالجديدة، بل إن السعي لخصخصة وبيع 14 شركة ومعملاً تابعين للقطاع العام بحجة الخسارة، على الرغم من أن بعضها رابح، كان خطة لتدمير القطاع العام ُطرحت في عام 2009 سابقاً، وجرى تجديد الحديث عنها اليوم على أمل تمرير هذا المشروع مستغلين الظروف التي تعيشها البلاد، ليثبت هذا الحديث أن هناك من يصرّ – من صانعي القرار الاقتصادي- على بيع القطاع العام وتصفيته مهما كان دوره وحاجته، ليس انطلاقاً من كون هذا القطاع لا يخدم الاقتصاد الوطني بعكس ما تؤكد تجربة السنوات الثلاث الماضية بشكل خاص، والعقود الاربعة الماضية بشكل عام، بل لأن رائحة المنفعة الخاصة تفوح من وراء السعي لتصفية شركات ومعامل القطاع العام، كما فاحت صفقات الفساد من خطط بيع القطاع العام في مصر، وصولاً إلى الفساد الكبير الذي رافق بيع هذا القطاع في دول الاتحاد السوفياتي سابقاً..
 
800 ألف فقدوا عملهم

بينما لم يسرّح القطاع العام الصناعي أياً من عمالته وموظفيه بفعل الأزمة الحالية، كشف مصدر في وزارة الصناعة أنّ عدد العمال الذين خسروا عملهم إثر توقف المعامل في القطاع الخاص بلغ 800 ألف عامل، وهذا في القطاع الصناعي الخاص وحده، وبحسب الاحصاءات الرسمية فقط، إلا أن الأرقام غير الرسمية تشير إلى أن من فقدوا وظائفهم قد وصل عددهم إلى 1.5 مليون عامل أو أكثر، وهذا يعني توقف دخل 1.5 مليون أسرة سورية وتشريدهم..
يصوّر البعض أن القطاع الخاص هو وحده من تضرر في هذه الأزمة، إلا أن الوقائع تؤكد أن قيمة الأضرار المباشرة وغير المباشرة التي لحقت بالقطاع العام منذ بداية الأزمة تجاوزت الـ 106 مليار ليرة سورية، أي أن القطاع الخاص ليس المتضرر الوحيد كما يحاولون الايحاء، إلا أن الفارق بين القطاعين، هو خروج القطاع الخاص من دائرة الإنتاج وهروبه، وأحدث فجوة في الإنتاج المحلي، وتشريد مئات ألاف العاملين في هذا القطاع وطردهم من وظائفهم، إلا أن الأضرار الكبيرة التي تعرض لها القطاع العام الصناعي على سبيل المثال، والتي فاقت الـ 100 مليار ليرة، لم تجبره على تسريح عمالته، ولم تخرجه من دائرة الإنتاج، وأصرّ على الاستمرار رغم الخسائر الكبيرة التي تعرض لها، وعلى الرغم من كل الظروف السيئة التي تعيشها البلاد، واستمر هذا القطاع في لعب دوره الاقتصادي والاجتماعي والوطني، ولم يهرب كما فعل القطاع الخاص..
 
 
فرضيتان لا ثالث لهما

أثبتت بعض القطاعات الإنتاجية العامة والزراعية منها تحديداً أهمية وجودها، كما في قطاع الدواجن، حيث ارتفعت أسعار البيض والفروج إلى مستويات قياسية، بعد توقف 70 - 90٪ من العاملين في هذا القطاع بشكل كلي بحسب مصادر ناطقة باسم المربين، وهم من كانوا يؤمنون القسم الأكبر من حاجة السوق الداخلية إلى البيض والفروج، فالقطاع الخاص خرج بفعل الظروف التي تعيشها البلاد، إلا أن  المؤسسة العامة للدواجن تسعى إلى زيادة نسبة إنتاجها بنسبة 20% عبر خطة اسعافية، بالإضافة إلى خطتها زيادة الطاقة الإنتاجية في منشآت الدواجن في حمص واللاذقية وطرطوس الى 100% من مادتي البيض والفروج خلال عام 2014، على الرغم من خروج (4 ) منشآت من الخدمة من أصل (11) منشأة، حيث أن الطاقة الإنتاجية لهذه المنشآت الأربع تبلغ 40% من حجم الإنتاج لكل المنشآت، أي أن المؤسسة هي تحملت عملياً وزر تأمين حاجة السوق من البيض والفروج عندما هرب وخرج القطاع الخاص من دائرة الإنتاج، ولو لم تكن المؤسسة العامة للدواجن ومنشآت الدواجن التابعة لها في المحافظات حاضرة وموجودة، لأجبرت الإدارة الاقتصادية على استيراد القسم الأكبر من حاجة السوق الداخلية، أو فقدت هاتين المادتين من السوق المحلية..
 
تعرية الخصخصة

من المستغرب أن يطل أحد علينا بعدما كشفت الأزمة الدور المحوري والضروري للقطاع العام في الحفاظ على الاقتصاد الوطني، لأنه لا يعمل بعقلية الاستثمار في البلد على أمل جني الأرباح، وليس مصيره الهروب مع أي هزة اقتصادية أو سياسية أو أمنية، أسوة بالقطاع الخاص الذي هرب القسم الأكبر منه إلى خارج البلاد باستثناءات قليلة في هذه الأزمة، مهما حاول البعض التبرير والتنظير لهذا الهروب، فهم يستثمرون البلاد لتحصيل الأرباح، وهدفهم الأرباح فقط، وليس لأغلبهم أي دور وطني أو اقتصادي حقيقي أو اجتماعي، وهذا ما كشفته وعرتّه الأزمة الحالية..