الدعوة لـ«ترشيد الاستهلاك».. التجار يحملون المواطن المسؤولية
في مشهد يعزز فرضية الانفصام لدى جماعة ناهبي المواطن السوري من زاوية استهلاكه اليومي عن الواقع الفعلي، «طالب أعضاء غرف التجارة والصناعة ورجال الأعمال بتنفيذ حملة إعلامية حول ترشيد الاستهلاك، وتوعية المواطن للابتعاد عن تخزين المواد كونه ينعكس سلباً،..
ويسهم في ارتفاع الأسعار من خلال زيادة الطلب على المواد وخاصة مع توفر المواد والسلع بالأسواق، إذاً، فكل ما يعانيه المستهلكون بحسب هؤلاء، ما هو إلا انعكاس لرغبتهم في امتلاك ما لا يحتاجونه من السلع والمواد، والذي يضاف إلى «استهلاكهم الزائد» في ظروف تتطلب شد الأحزمة كثيراً، وهذا ادعاء أقل ما يقال عنه بأنه سخيف، ويؤكد انفصامهم عن الواقع في هذا التشخيص
ادعاء زائف
التقارير الدولية الأكثر تفاؤلاً، تشير إلى أن نصف الشعب السوري دخل ضمن دائرة الفقر، وتبيّن تلك التقارير أيضاً، تراجع القدرة الشرائية للغالبية الساحقة بشكل واضح، وهذا أمر طبيعي أمام معطيات ثبات الرواتب والأجور على حالها، إن لم نقل إن نصف السوريين خسروا وظائفهم خلال الأزمة، والمترافق مع ارتفاع الأسعار بنسبة لا تقل عن 200% وسطياً، وهذه المعطيات التي ذكرناها لا تحتاج إلى الكثير من التحليل والتفسير، بل تؤكد شيئاً واحداً فقط، وهو أن التشخيص السابق للتجار وحلفائهم لا يمت إلى الواقع الراهن بصلة، فعن أي ترشيد مطلوب يتحدثون؟! أليس ترشيد الاستهلاك بات أمراً واقعاً بفعل هذه الظروف؟! ألم يتراجع استهلاك السوريين من المواد الأساسية إلى حدوده الدنيا؟! كما أننا نسأل: من هم القادرون على تخزين المواد والسلع في الظروف الحالية؟! وما هي نسبتهم من عموم السوريين؟! كلها أسئلة تؤكد الاجابة عنها زيف ادعاء هؤلاء الراغبين في تحميل المستهلك السوري مسؤولية الارتفاع الحاصل في الأسعار، للتنصل من مسؤوليتهم المطلقة عن الخلل الحاصل في الأسواق، فهم وحدهم من يتحملون وزر ما أحدثوه من ارتفاع مهول في الأسعار تحت ذريعة ارتفاع الدولار، ليكشف انخفاضه، وبقاء الأسعار على حالها، ما خفي من معادلة النهب الممنهج للسوريين تحت حجج وذرائع واهية!.
تقشف
لم يعد الحديث عن غياب الثقافة الاستهلاكية، وعن ضرورة وجود ثقافة ترشيدية من مكونات أدبيات المستهلك السوري، بل بات الترشيد أمراً واقعاً في ظل ظروف الأزمة، وتراجع القدرة الشرائية كان الأرضية الخصبة لهذا التراجع، فهناك تدنٍ واضح في الاستهلاك الإجمالي لتراجع الإمكانات الشرائية، إلا أن هذا لم يكن على حساب ما هو فائض من الاستهلاك الضروري كما يحاول البعض الادعاء، لأن غالبية السوريين يصنفون ضمن شريحة أصحاب الدخل المحدود، أي أن لا فوضى في استهلاكهم، ولهذا نسأل الداعين إلى ترشيد الاستهلاك: هل على السوريين تناول وجبة واحدة لكي ترضي طموحاتهم الترشيدية؟!
إن ما يجري اليوم لا يمت إلى الترشيد بصلة، بل هو تقشف حقيقي يمارسه المستهلكون بحكم ظروفهم، ولا يتعدى كونه اكتفاء بالحد الأدنى من الاستهلاك الأساسي والضروري، أي أنه ترشيد إجباري محض، أنتجته ظروف الأزمة، وتراجع القوة الشرائية لغالبيتهم، ولسان حالهم لا ينطق إلا بالترشيد..
حلول استثنائية
مع إقرار العمل بالتسعير الإداري من جانب الحكومة للسلع الرئيسية، افتكر البعض أن الحكومة قد أتمت مهامها أمام المستهلكين، وإن وضع الأسعار يسير في الاتجاه الصحيح، إلا أن تلك القرارات على أهميتها من حيث الشكل، فإنها لن تكون ذات جدوى أمام الواقع المعقد الذي نعيشه الآن.
سيجد التجار في ارتفاع الدولار وغيره من الأسباب، مدخلاً آمناً لعدم التزامهم بالتسعير الاداري، والأيام ستثبت ذلك، وما سيقدمونه من تكاليف وهمية لبعض السلع سيكفل لهم الحفاظ على الأسعار المرتفعة، وتجربة تكلفة إنتاج البيض والفروج المقدمة من المربين على أيام النشرات التأشيرية تنبئ بذلك، كما أن جولات «التموين» التي ستستهدف الصغار فقط ستتكفل بإفراغ القرار من مضمونه، وتجربة الأسبوعيين الماضيين في محافظة طرطوس تؤكد ذلك، فالعديد من الضبوط سُجلت لبعض الباعة الصغار جداً، دون الاقتراب من الفاعلين الكبار في السوق فعلياً، وجرت تسوية العديد من المخالفات بالرشوة بشتى الطرق والوسائل..
الواقع الاقتصادي الراهن لا يتطلب سوى إعلانٍ لـ«حالة الطوارئ» بحق ناهبي لقمة عيش السوريين، والسير نحو تعديلات في قوانين التموين والعقوبات الاقتصادية إذا ماكان ضرورة فإنها لا تكتمل إذا لم تستطع الدولة أن تثبت وجودها كشريك هام ومحدد في السوق في كل من عمليتي التوزيع والاستيراد.. لأن بعض «حيتان السوق» تمتلك من القدرة ما يجعلها فوق القانون مهما اشتدت عقوباته، فهم لا يخجلون اليوم من قلب الأدوار ولوم المواطن عبر تصريحاتهم الساعية لتشويه استغلالهم من بوابة معيشتهم اليومية..