10 أسئلة تطرحها أفغانستان على العالم، وعلى منطقتنا، وبلدنا
ما تزال مستمرة تفاعلات الحدث الأفغاني في أفغانستان وحولها وعلى امتداد العالم، ولعلّ تفاعلات الحدث الأفغاني خارج أفغانستان هي أضعاف ما هي عليه داخله؛ وهو أمرٌ مفهوم لأنّ ما جرى هنالك، وما سيجري، يرتبط ارتباطاً كبيراً بماهية السياسة الأمريكية في إطار تنافسها وصراعها مع القوى الصاعدة، وأيضاً بآليات تعامل تلك القوى المنافسة مع الحدث الأفغاني، وهذا يرتبط تالياً بمجمل التوازن الدولي وتحولاته، وهو الأمر الذي تصل تأثيراته إلى كل بقعة من بقاع الأرض.
فيما يلي سنحاول عرض مجموعة من الأسئلة التي نعتقد أنّ الحدث الأفغاني قد وضعها بشكل ملحٍ على طاولة البحث العالمي، بما في ذلك منها ما يخص منطقتنا وبلدنا سورية، ولكن قبل ذلك لا بد من توصيفٍ سريعٍ لما جرى، ليس جانبه الإخباري طبعاً، ولكن إلى حد ما التحليلي...
توصيف سريع
ليس من الصعب الاستنتاج أنّ طريقة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، تضمّنت عملية (استلام وتسليم) مع طالبان، بما في ذلك ترك أسلحة أمريكية بيد طالبان في أماكن متفرقة من البلاد.
تضمنت العملية أيضاً «خيانة» أمريكية، ليست الأولى ولا الأخيرة من نوعها، للموالين لها ضمن أفغانستان، وللحكومة والجيش الذي ادّعت أنها صرفت عليهما مبالغ مهولة.
ليس صعباً أن نستنتج أيضاً أنّ ترك الساحة لطالبان له غرض واضح هو ملء الفراغ الأمريكي بالفوضى؛ أي تحويل أفغانستان إلى بؤرة تهديد وتخريب لجواره القريب والبعيد. يشمل ذلك إيران وباكستان وطاجكستان وتركمانستان وأوزباكستان والهند وتركيا وصولاً إلى الصين وروسيا، وإلى شرقنا العربي أيضاً...
وواضح أنّ محيط التهديد هذا، هو بالذات، القلب من المساحة الجغرافية الأساسية لكل من «الحزام والطريق» الصيني، و«المشروع الأوراسي» الروسي.
من الخفة –على ما نعتقد- التسليم المطلق للرواية الأمريكية حول العداء مع طالبان؛ ذلك أنّ التاريخ يشهد على العلاقة الوطيدة تاريخياً بين مختلف الجماعات «الجهادية» وبين الولايات المتحدة، ابتداءً من تأسيسها في إطار الحرب مع الاتحاد السوفياتي في حينه... ونقول التسليم المطلق لأنّ العداء بين الشعب الأفغاني وبين الأمريكان هو عداء قائمٌ وحقيقي، جذّرته السنوات العشرون المنصرمة، بجرائم الأمريكي من جهة وبفساد وتسلط عملائه من الجهة الأخرى. وهذا أمر سيترك بلا أدنى شك تأثيره على طالبان نفسها.
ولكن في الوقت نفسه، لا نعتقد أنه من الصحيح استسهال توصيف طالبان بأنها مجرد أداة أمريكية؛ فخلال السنوات الثلاثين الماضية، وعبر صراعات وأدوات شديدة التعقيد، فإنّ مختلف الدول المحيطة بأفغانستان، وصولاً إلى روسيا والصين، قد دخلت في أشكال مختلفة من الحوار مع طالبان نفسها، وقد بات لبعضها علاقات معقولة مع الحركة. يضاف إلى ذلك، أنّ الحركة نفسها، ليست «على قلب رجلٍ واحدٍ»، بل إنّ ضمنها تيارات متعددة...
التوصيف السابق ليس أكثر من توطئة للدخول إلى الأسئلة التي يطرحها الحدث، وهذه الأسئلة، ودون ترتيب منهجي، هي التالية:
(1)
الاتجاه الانسحابي الأمريكي بات أمراً واقعاً، وباتت أفغانستان نفسها أكبر شواهده. ولكن السؤال الكبير الذي ستجيب عنه الأشهر والسنوات القليلة القادمة هو التالي: هل ستتمكن الدول الصاعدة، وخاصة روسيا والصين، ومن ثم الدول المحيطة بأفغانستان مباشرة، وأهل أفغانستان نفسها، من احتواء الوضع الأفغاني وقطع الباب على تحويل أفغانستان إلى بؤرة للفوضى والتفجير كما يريد لها الأمريكي أن تكون؟
تقديرنا الأولي أنها ستنجح في ذلك، وإنْ عبر صعوبات غير قليلة. وعملياً، سيكون هذا أول اختبار جديٍ وواسعٍ، لقدرة القوى الصاعدة على إنهاء الفوضى الخلاقة الأمريكية، الأمر الذي ستكون له آثاره الكبرى على مجمل المناطق التي ينوي الأمريكي الانسحاب منها، وتالياً على مجمل التوازن الدولي...
(2)
ربما باتت مسألة «خيانة الأمريكيين» لحلفائهم، الثيمة الأكثر انتشاراً في إعلام أولئك الحلفاء، ابتداءً من «إسرائيل» ومروراً بدول الخليج، ووصولاً حتى إلى بعض زعامات أمريكا اللاتينية المدعومة أمريكياً.
يطرح هؤلاء «الحلفاء» على أنفسهم مجموعة أسئلة مشتقة من الحدث الأفغاني، بينها ثلاثة أسئلة أساسية: - هل سيأتي دورنا؟ - متى سيأتي دورنا وكيف؟ - ما الذي علينا فعله تحسباً للأمر؟
وضمناً، يسأل هؤلاء الحلفاء: ما هي طبيعة التحالفات والعلاقات والعداوات التي ينبغي علينا البدء سريعاً في إعادة النظر بها تحسباً للـ«خيانة الأمريكية» التي يصح في وصف احتمالها، الوصف الهزلي الذي يستخدمه الأمريكان أنفسهم حين يريدون إلقاء كذبة ما دون تحمل مسؤولية كاملة عنها؛ وأقصد بذلك تعبير highly likely (أي المحتمل احتمالاً عالياً).
(3)
أسلفنا أنّ بين الحلفاء الذين يطرحون على أنفسهم الأسئلة الكبرى السابقة «إسرائيل»، وهذا ما تكشفه صحافتهم هذه الأيام، والتي باتت تتحدث عن الانسحاب الأمريكي من أفغانستان بوصفه نهاية للعصر الأمريكي، وبداية لعصر جديد.
ولكن السؤال الذي نطرحه نحن بناء على هذا الأمر: أيّ مصير سيكون للقضية الفلسطينية ببعدها الفلسطيني وببعدها العربي، والسوري خاصة، في ظل الانسحاب الأمريكي؟
ليس بعيداً عن الذهن القول العام: التراجع الأمريكي هو بالضرورة تراجع للمشروع الصهيوني، ولكن الأصعب هو البحث في كيف سيتم ذلك، وبأي الوسائل؟ وهذه أسئلة تنبغي الإجابة عنها نظرياً، وعملياً...
(4)
في سياق «انهيار» الجيش الأفغاني المدرب أمريكياً، (والمسألة كما أسلفنا هي برأينا مسألة استلام وتسليم، ولكنها لا تلغي أنّ هذا الجيش لم يكن جيشاً وطنياً ولم يكن مستعداً للقتال)، يجري طرح سؤال عام عن مجمل «الجيوش» والقوى التي يدربها أو يسلحها الأمريكي.
ربطاً بالسؤال السابق، فإنّ الصحافة «الإسرائيلية» نفسها، تطرح خلال الأيام الماضية سؤالاً عن مصير القوى الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية التي تدربها وتمولها الولايات المتحدة. يتركز هذا السؤال في الموضوعة التالية: ألا ينبغي علينا «كإسرائيلين» أن نعيد النظر جذرياً في قدرة هذه الأجهزة على قمع وضبط الفلسطينيين خلال المرحلة القادمة؟ وألا يترتب على ذلك أنه ينبغي القيام بإجراءات فورية وسريعة؟ (أي أنّ التنسيق الأمني الذي يقدسه البعض، ولسخرية القدر، بات موضع تساؤل «إسرائيلي»!)
السؤال نفسه يتردد بطريقة أو بأخرى بما يخص الجيش العراقي والجيش اللبناني، وإنْ كان للأوضاع في هذين البلدين إحداثيات أخرى مختلفة...
(5)
إذا كان الغرض من طريقة الانسحاب من أفغانستان هو تحويله إلى بؤرة تفجير تهدد كل جواره، والصين وروسيا خصوصاً، وهذه الدول نفسها ستحاول احتواء الحدث الأفغاني، وهذا أمر يحتاج بطبيعة الحال جهداً وموارد ووقتاً، فربما من المفيد –من وجهة النظر الأمريكية- أن يتم إلقاء عدة كرات نارٍ مشتعلة في وقت واحد بين يدي هذه الدول التي ستحاول القيام بدور الإطفائي، ما يضعف قدرتها على أداء مهمتها تلك...
ولذا يصبح من المحتمل، ومن المنطقي أن يتم طرح السؤال التالي: هل ستقوم أمريكا بانسحابات سريعة وقريبة من عدة أماكن مضطربة أصلاً في هذه المنطقة بامتدادها الواسع... وبالدرجة الأولى من العراق وسورية؟
(6)
تطرح الدول التي لا يزال هنالك ضمنها وجود أمريكي، وخاصة في منطقتنا، على نفسها السؤال التالي: هل سينسحب الأمريكان بالطريقة نفسها التي انسحبوا فيها من أفغانستان؟
بالملموس، هل سينسحبون: 1- بشكل مفاجئ؟ 2-يسلمون مواقعهم لأعداء حلفائهم وخاصة ذوي الطبيعة «الجهادية»؟
مثلاً، في سورية والعراق، يجري طرح السؤال بالشكل التالي: 1- هل سيجري انسحاب فوري قريب؟ 2- هل سنشهد إعادة إحياء مفاجئة لداعش مترافقة مع انسحاب أمريكي (استلام وتسليم مع داعش)... 3- أم أنّ الخصوصية السورية العراقية، والوجود الروسي على الأرض، ستدفع الأمريكان إلى محاولة انسحاب تتضمن إيهام الجميع بالاستلام (بشكل مشابه إلى حد ما لطريقة الانسحاب الجزئي نهاية 2019)، بحيث يتم تأمين أرضية لحرب الجميع مع الجميع؟
وهذه الأسئلة نفسها، تدفع حلفاء وأعداء أمريكا، الإقليميين والمحليين في سورية والعراق، إلى التفكير جدياً في السؤال التالي: - هل يمكننا الوصول إلى صيغة ما من التوافق بحيث يحقق الكل مصالحه ضمن حدود معقولة بدل أن نسفك دماء وموارد بعضنا البعض؟
هذا السؤال الأخير يبدو قابلاً للإجابة بـ:نعم، في ظل جهود قائدي القطب الصاعد، أي روسيا والصين من جهة، وأيضاً في ظل فهم مختلف القوى –إلى هذه الدرجة أو تلك- لحقيقة أنّ الفوضى لن تكون في مصلحة أي طرف من الأطراف... وهذا لا يلغي بطبيعة الحال احتمالات مناوشات هنا ومناوشات هناك بحثاً عن تحديد تخوم المصالح المتصارع عليها...
(7)
إذا كان الألمان قد وصفوا ما جرى في أفغانستان بأنه أكبر فشل في تاريخ الناتو. ومجمل الدول الأوروبية عبرت عن مواقف مشابهة، عدا البريطانيين طبعاً، والذين باتوا الحليف الوحيد الثابت للولايات المتحدة، فإنّ السؤال الذي يُطرح هنا: ما هو تأثير ما جرى على مستقبل حلف الناتو؟ هل سيستمر الأوربيون في دفع أتاوات الناتو الأمريكية إلى ما لا نهاية؟ وهل سيعيدون النظر في طبيعة اصطفافهم الدولي؟ وما هو مستقبل الحلف نفسه؟
(8)
الحدث الأفغاني يعزز الأسئلة الأوروبية من وجهة النظر التالية: المهام التي جرى التذرع بها، سواء المتعلقة بمكافحة الإرهاب، أو بحقوق الإنسان وإلى ما هنالك، جرى دوسها بعجلات الطائرات الأمريكية المغادرة لمطار كابول، وسالت دماؤها على أرض أفغانستان... ثم ماذا؟ إذا كان الحامل الأيديولوجي لصراع شرق غرب، وهو حامل مضلل بطبيعة الحال، هو الصراع بين «الديمقراطية» و«الاستبداد»، بين «التنوير والحضارة» و«التعصب والتخلف» وإلخ، فإنّ هذا الحامل قد انهار.
ورغم أنّ الحامل الأيديولوجي للصراع قد يبدو مجرد مسألة يتم التذرع بها، إلا أنه جزء أصيل من أساسات الصراع لا يمكنه الاستمرار دونه، وليس من السهل إطلاقاً اختراع وتكريس صراعات أيديولوجية جديدة؛ فهذه صراعات تتطلب عقوداً من العمل عليها... فما أشرنا إليه من حوامل أيديولوجية قد بدأ بناؤها بشكل فعال منذ بداية الحرب الباردة، ولم تترسخ إلا بعد عقود عديدة.
وإذاً، فأي أنواع الصراع الأيديولوجي على المستوى الدولي هي تلك التي سنراها خلال السنوات القادمة؟ وما الذي ستعكسه في العمق؟
(9)
تعوّل النخبة البريطانية –وقد عبّرت عن ذلك صراحة- على حرب أهلية في أفغانستان تقوم على أساسين: قومي بالدرجة الأولى بين الطاجيك خاصة والبشتون، وطائفية دينية بالدرجة الثانية بين سنة وشيعة.
ولذا فإنّ السؤال الذي تحمل إجابته أبعاداً كبيرة بما يخص منطقتنا بأسرها هو التالي: هل ستنجح دول القطب الصاعد، وروسيا والصين خاصة، إضافة إلى الدول المحيطة بأفغانستان، والأفغانيون أنفسهم، هل سينجح هؤلاء جميعهم في منع وقوع صراع وحرب أهلية جديدة؟
إذا تمكنوا من ذلك، فإنّنا سنكون أمام انعطاف تاريخي شديد الضخامة؛ سيفتح الباب أمام حل مسألة الصراعات القومية والطائفية في مجمل الشرق، وهذه الصراعات كانت طوال 500 عام الماضية أداة أساسية في سيطرة ونهب «ممالك أعالي البحار»، وخاصة بريطانيا، لمجمل قارتي آسيا وإفريقيا...
(10)
من المؤكد أنّ أصحاب القرار الأمريكي بالانسحاب من أفغانستان بهذه الطريقة، أي عبر تسليم طالبان وخيانة مواليهم، يعرفون ما لهذا القرار من تأثيرٍ على بقية حلفائهم وعملائهم حول العالم، ويعرفون تالياً أنّ هذه الطريقة في الانسحاب ستكلفهم خسائر جدية في علاقاتهم مع هؤلاء الحلفاء الذين سيحاولون حماية أنفسهم عبر التفاهم والتصالح إلى هذا الحد أو ذاك مع أعدائهم السابقين على حساب أمريكا بالذات.
وإذا كان الأمريكيون يدركون أكثر من أي أحدٍ آخر، حجم الخسائر المحتملة التي يمكن أن تترتب على فعلتهم في أفغانستان، فإنّ هذا يعني أنهم يقامرون بأنّ أرباحهم من الانسحاب بهذه الطريقة ستكون أكبر من خسائرهم، والأرباح تتكثف فيما أسلفنا ذكره من تحويل أفغانستان إلى بؤرة تهديد وتعطيل لمشروعي الحزام والطريق والأوراسي اللذين تعتبرهما واشنطن تهديداً وجودياً لها.
ولكن السؤال هنا هو: من يقوم بمقامرة بهذه الخطورة وبهذه الضخامة، فما هو عمق الأزمة الفعلية التي يعيشها، بالمعنى الاقتصادي بالدرجة الأولى، وبالمعنى السياسي تالياً؟
ولتوضيح مقصدنا من السؤال أكثر، نقول التالي: لم يعد نقاش وجود تراجع أمريكي من عدمه موجوداً في أي مؤسسة بحثية جدية؛ الكل بات مقراً ومتفقاً على أن هنالك تراجعاً أمريكياً... (ربما نجد ضمن البروباغاندا الإعلامية، وضمن نقاشات الناس من لا يزال متوهماً بالعظمة الأمريكية وبقدرتها المطلقة وإلى ما هنالك، وهذا من طبيعة الأمور...).
ولكن ما تطرحه هذه المقامرة الأمريكية الضخمة (أن تقامر كدولة بعلاقاتك بكل حلفائك حول العالم، فكأنما تراهن بـ all in في لعبة بوكر)، هو السؤال عن مدى هذا التراجع، والمرحلة التي وصلها... ونتجرأ هنا على الافتراض أنّ خسارة هذه المقامرة، أي منع تحول أفغانستان إلى صاعق تفجير لكل المنطقة، ستعني دخول الولايات المتحدة، لا في مرحلة تراجع سريع فحسب، بل وفي مرحلة أفولٍ بوصفها قوة عظمى... فهل ستخسر واشنطن في مقامرتها الأفغانية؟