إثيوبيا... القنبلة الأكبر في خاصرة إفريقيا

إثيوبيا... القنبلة الأكبر في خاصرة إفريقيا

تصدرت إثيوبيا عناوين نشرات الأخبار مع انفجار المواجهات العسكرية بين الحكومة الفيدرالية وجبهة تحرير تيغراي في إقليم التغراي شمال البلاد، ورغم أن النزاع اندلع منذ بضعة أيام إلا أن نتائجه الكارثية بدأت بالظهور منذ الساعات الأولى، فقد لقي المئات من المدنيين والعسكريين مصرعهم، وسجلت مفوضية اللاجئين نزوح ما يقارب 15 ألف إثيوبي إلى السودان ومن المتوقع أن يصل العدد إلى 200 ألف إذا استمر النزاع.

لا يمكن التفكير بسيناريو جيد لنهاية المعارك في إثيوبيا، فأحسن هذه السيناريوهات هو آلاف الضحايا، ومئات الآلاف من النازحين بالإضافة إلى تدمير واسع في الممتلكات العامة والخاصة والبنية التحتية، أما أسوأ هذه السيناروهات فلا يقف عند تقسيم إثيوبيا، بل يهدد دول القرن الإفريقي مجتمعة، ولا نرى مبالغة في القول: بإن حرباً أهلية جديدة في إثيوبيا ستحمل أياماً أكثر سواداً للقارة الإفريقية كلها! أياماً ستذكرها طويلاً قبل أن تنتهي حقبة استنزاف القارة السمراء بعد عقودٍ طويلة من الاستعمار والاستغلال الغربي.

حجم القنبلة!

تعتبر إثيوبيا من أكبر بلدان إفريقيا، فهي الثانية من حيث المساحة بعد نيجيريا، وبلغ عدد سكانها حسب آخر التقديرات أكثر من 115 مليون نسمة، وتعد إثيوبيا من أعلى دول افريقيا كثافة بالسكان. ولذلك تعتبر احتمالية انفجار حرب أهلية في بلدٍ بهذا الحجم كارثة سياسية وإنسانية حقيقية، وخصوصاً إذا علمنا أن إثيوبيا تلقب بـ «متحف الشعوب» لاحتوائها على أكثر من 80 مجموعة عرقية مختلفة، وشكّل هذا التنوع الواسع وقوداً لحرب أهلية طاحنة امتدت من سبعينات القرن الماضي إلى العام 1991 وراح ضحيتها حسب أعلى التقديرات 1.4 مليون ضحية. التاريخ الدموي للحرب الأهلية يعتبر كافياً لتصور مآلات الأمور إذا ما استمر النزاع بالتطور. ويضاف إلى ذلك أن النزاع اليوم يدور بين الجيش الفيدرالي الإثيوبي وميليشيا منظمة ومدربة وتملك خبرة عسكرية تضاهي خبرة جيش، ويبلغ تعداد مقاتليها المنظمين حوالي 250 ألف مقاتل، وتتمتع جبهة تحرير تيغراي هذه بشعبية في داخل الإقليم. بالإضافة إلى كونها لاعباً سياسياً أساسياً في تاريخ البلاد.

ومضة من التاريخ

لا بد لنا لفهم المعارك الدائرة في إثيوبيا أن نفهم أسباب خلاف جبهة تحرير تيغراي مع رئيس الوزراء الحالي آبي أحمد، والذي يعود في جذوره إلى الحرب الأهلية الإثيوبية. فقد تمكن المجلس الماركسي في سبعينات القرن الماضي من إسقاط حكم الإمبراطور هيلا سيلاسي، ليخوض النظام الجديد فيما بعد سلسلة من المعارك الطويلة إلى أن سقط على يد قوات الجبهة الشعبية الثورية الديمقراطية، وكان أبرز مكوناتها جبهة تحرير شعب تيغراي التي استطاعت حسم الصراع عام 1991 وسيطرت على العاصمة بدعم أمريكي وغربي، لتنهي بذلك حقبة من تاريخ إثيوبيا. اعتمد النظام الحاكم فيما بعد على تمثيل متوازن للقوميات الأساسية، إلا أن قومية تيغراي كانت الأوسع نفوذاً، حتى وصل آبي أحمد إلى السلطة. والذي يعتبر أحد الشخصيات البارزة التي تصدرت المشهد ويظهر بوصفه المصلح، وخصوصاً بعد حصوله على جائزة نوبل للسلام، فكان رئيس الوزراء الجديد هذا شخصية مقبولة من قبل الغرب والولايات المتحدة، ولاقي دعماً جدياً، لكنه وعلى الرغم من ذلك ظهر بوصفه ممثلاً عن أكبر قومية في إثيوبيا، وهي أورومو التي ترى أن نفوذ «تيغراي» منعها من حقوقها في الحكم، أي: إن آبي أحمد لم ينجح في تقديم نفسه كرئيس وزراء عابر للقوميات، رغم قدرته العالية على إيجاد توافقات مع معظم هذه القوميات، لكنه وبسبب معارضة جبهة تحرير شعب تيغراي لسياساته بدأ بنزع امتيازاتها وإبعادها التدريجي عن الحكم، وتم ذلك عبر عملية منظمة لاقت الكثير من السخط في أوساط الجبهة التي لم تستكين لهذه التغييرات وانتظرت اللحظة المناسبة، وكان تأجيل آبي أحمد لانتخابات منتظرة متذرعاً بالوضع الصحي في البلاد سبباً كافياً للجبهة للقيام بانتخابات منفصلة، مما عقّد الوضع أكثر وقاد الأمور إلى إعلان الجيش الفيدرالي الإثيوبي عن عملية عسكرية تهدف لكسر شوكة الجبهة إلى الأبد، بعد أن قالت المصادر الرسمية بأن  جبهة تحرير شعب تيغراي شنت هجوماً على المركز الشمالي للجيش الفيدرالي.

 

بصمات أمريكية لا مصرية

لا يمكن إنكار وجود أسباب موضوعية لما تعيشه إثيوبيا اليوم، يكفي أن نقرأ تصريحات نائب مدير برنامج إفريقيا التابع لمجموعة الأزمات الدولية، دينو ماهتاني الذي قال يصف انفجار المعارك في إثيوبيا بأنه كان «أشبه بمشاهدة حادث تحطم قطار في حركة بطيئة». فالأزمة قائمة منذ زمن، ولم يجرِ حلّها، بل تركت تحت الشمس لتنفجر، وهذه بحد ذاتها جريمة ارتكبها النظام الإثيوبي، وستُدفع فاتورتها من دماء شعب إثيوبيا ومحيطها، لكن وبعيداً عن الاتهامات المتبادلة بين الأطراف، ينبغي التوقف أمام السعي الأمريكي المحموم إلى تحميل مسؤولية ما يجري في إثيوبيا لمصر باعتبار أن أزمة حادة تعصف بالعلاقات بين البلدين على إثر مشروع سد النهضة الإثيوبي، فأحد الدبلوماسيين الأمريكيين، ألمح بتصريحات لواشنطن بوست بشكل واضح إلى أن لمصر أيادي فيما يجري، وكانت الإشارات الأمريكية المشابهة كافية لتوجيه أصابع الاتهام إلى مصر في هذه القضية متجاهلين بذلك أن قيام مصر بلعب دور المحرض في نزاع كهذه لهو أشبه بأن يطلق الشخص النار على قدميه! فنار إثيوبيا لن تكون بعيدة  عن مصر، لكن الدور الذي تلعبه الولايات المتحدة في توتير العلاقة بين البلدين لم يعد بالإمكان إخفاؤه، فيفترض أن تقوم الولايات المتحدة بدور الوسيط لحل هذا النزاع، لكن الواقع أثبت أنها كانت تدفع الأمور إلى التعقيد لا إلى الحل، وكان آخر ما جرى في هذا الملف، هو حديث الرئيس الأمريكي مع رئيس وزراء السودان عبدالله حمدوك إذ قال بأن «مصر لن تكون قادرة على العيش بهذه الطريقة. وسينتهي بهم (المصريين) الأمر بتفجير السد» وعدا عن كون هذه الكلمات لا تنسجم على الإطلاق مع دور الوسيط الذي تحاول واشنطن إقناعنا به، كانت بالنسبة لإثيوبيا كالشعرة التي قصمت ظهر البعير، فاستدعى وزير الخارجية الإثيوبي، جيدو أندارغاتشو السفير الأمريكي لدى إثيوبيا ليبلغه أن بلاده ترى «إنه من غير المقبول أن يقوم رئيس أمريكي حالي، بالتحريض على الحرب بين إثيوبيا ومصر... التحريض على الحرب بين البلدين من قبل الرئيس الأمريكي لا يعكس الشراكة طويلة الأمد والتحالف الإستراتيجي بين إثيوبيا والولايات المتحدة، كما أنه غير مقبول في القانون الدولي الذي يحكم العلاقات بين الدول».

تتضح الصورة كثيراً عند النظر للسلوك الأمريكي لا في إثيوبيا فقط بل في إفريقيا عموماً، فهي كما كانت دائماً الراعي الرسمي للفوضى، من إثيوبيا والدور الذي لعبته في قلب النظام والحرب الأهلية، إلى السودان ومساهمتها الفاعلة بتفتيته وابتزازه وتأجيج كل أنواع الصراعات القائمة فيه، وصولاً إلى مصر وليبيا وغيرها من دول إفريقيا المتعبة، لكن هذا الدور يشهد تحولاً جديداً فهو إن كان يشترك سابقاً مع أتباعه الغربيين بسعيه إلى بناء الطرق السريعة لنقل ثروات القارة الغنية إلى خارجها، فهو يهدف اليوم إلى اشعالها أملاً بتطويق العلاقات الصينية-الإفريقية والروسية-الإفريقية فهذه الإستراتيجية استخدمت في آسيا ويجري استخدامها في أوروبا، وإفريقيا سيكون لها حصة بكل تأكيد، فالقواعد العسكرية الصينية في جيبوتي التي أنشأت لتصدي لخطر القراصنة لما يمثلوه من تهديد للمصالح الصينية ستجد نفسها محاطة بنيران الحرب في القرن الإفريقي إذا ما نجحت واشنطن بمساعيها، فالولايات المتحدة أعلنت عن نيتها تقليص تواجدها العسكري في افريقيا، وهذا قدرٌ لا رادّ له حتى مع استلام الرئيس الأمريكي الجديد، لكنها لن تدخر جهداً لإحراق الأرض قبل إخلائها، لتجد إفريقيا نفسها كغيرها من بقاع الأرض بحاجة إلى شركاء لا مصلحة لهم بإشعالها، ولذلك سيكون للصين روسيا دورٌ فيما يجري وسنشهد - إذا ما نجحت المساعي لاحتواء الصراع القائم – تحولاً جذرياً يتم ضمنه انفكاك «شركاء واشنطن الاستراتيجيين» في القارة عنها، في أثناء بحثهم عن طوق النجاة الحقيقي. فرغم أن النظام في إثيوبيا جرى صقله وترتيبه بما يتوافق مع المصالح الأمريكية والغربية، إلّا أن المعركة تتطلب التضحية وخصوصاً أن إثيوبيا بلد ذو إمكانات جدّية، ولن يكون من السهل احتواؤه فترة أطول، لذلك يبدو أن الولايات المتحدة لم تعد تسعى للحفاظ على حلفائها، بل على العكس تماماً فهي تستخدمهم حطباً في نارها الكبرى.

آخر تعديل على الإثنين, 16 تشرين2/نوفمبر 2020 21:38