زهران ممداني… قراءة أشمل من منصب عمدة نيويورك!

زهران ممداني… قراءة أشمل من منصب عمدة نيويورك!

انتهت انتخابات بلدية مدينة نيويورك الأمريكية بفوز كاسح للمرشح الاشتراكي الديموقراطي زهران ممداني. الحديث فرض نفسه على المشهد السياسي الأمريكي بما يعنيه من تحوّلٍ لافتٍ في معطياتٍ بدت أزلية وعصية على التغيير؛ فالمسألة تتعدى كون ممداني أول مسلم يصل إلى مقعد عمدة المدينة الأمريكية الأكبر لتشير إلى مزاجٍ عام داخل الولايات المتحدة بدأ يعبر عن نفسه بأشكالٍ مختلفة!

انتصار ممداني في الانتخابات يفرض علينا قراءة شاملة في معانيه، وتحديداً من خلال زوايا أساسية؛ إذْ حمل ممداني برنامجاً مغايراً وغير مألوف في السياسة الأمريكية، يعبر عن مصالح العمال والفئات المهمشة بصوتٍ مرتفع ضد تسلط المليارديرية وأصحاب الشركات، ويتجاوز الخطاب التفتيتي الذي يحاول تقسيم المجتمع إلى فئات ثانوية متناحرة، وفي جانبٍ آخر شكّل فوز شخصية مثل ممداني تأكيداً جديداً على تفكك الثنائية الجمهورية-الديموقراطية، وبحث الشارع عن سياسيين من خارج المنظومة التقليدية، وأخيراً، كان دعم عمدة نيويورك الجديد للقضية الفلسطينية وتهديده باعتقال نتنياهو إذا ما زار المدينة عاملاً مساعداً في فوزه، ما يشكّل سابقة لن يطول الأمر حتى تتحول إلى واقع لا يمكن تجاهله.


برنامج اقتصادي-اجتماعي طموح


كان برنامج زهران ممداني الاقتصادي عامل جذبٍ أساسي، وعاملاً حاسماً في فوزه، ووضع خطة يمكن تمويلها من ميزانية مدينة نيويورك المقدرة بـ 115 مليار دولار، ووعد بمعالجة أزمة تكاليف المعيشة في نيويورك من خلال التركيز على الإسكان أولاً، عبر الدعوة إلى تجميد الإيجارات لنحو مليوني مستأجر، مستفيداً من سلطة العمدة في تعيين مجلس توجيه الإيجارات. كما يطرح مشروعاً لبناء 200 ألف وحدة سكنية ميسورة التكلفة، ملائمة لدخل الأسرة المتوسطة، كما أعلن عن نيته دعم الملاك الصغار لتخفيف الضغوط عليهم دون تحميل المستأجرين تكاليف إضافية، إضافة إلى إنشاء وكالة للإسكان الاجتماعي، وتجديد مرافق الإسكان العام.
فيما يتعلق بالأجور والضرائب، وعد ممداني برفع الحد الأدنى للأجور إلى 30 دولاراً بحلول 2030، بدءاً بموظفي المدينة، مع فرض زيادة ضريبية على أصحاب الدخل المرتفع والشركات بهدف جمع نحو 20 مليار دولار لتمويل الخدمات. وينتقل البرنامج إلى الخدمات العامة، حيث يَعدُ البرنامج بتأمين مواصلات مجانية بشكلٍ كامل يجري تمويلها بمليار دولار من ميزانية المدينة، وفتح متاجر بقالة مملوكة للمدينة لضبط أسعار الغذاء، حيث إنها لن تكون مدفوعة بالربح، بل تعمل على بيع منتجاتها بسعر الكلفة، إضافةً إلى توفير مستلزمات مجانية للمواليد الجدد وتوفير رعاية أطفال شاملة ومجانية لجميع الأطفال في المدينة، من عمر ستة أسابيع إلى خمس سنوات، ممولة من خلال زيادة الضرائب على الأثرياء، هذا فضلاً عن زيادة تمويل المدارس العامة والالتزام بتخفيض أحجام الفصول الدراسية، وإنهاء الإعفاءات الضريبية لجامعتي نيويورك وكولومبيا، وتخصيص هذه الموارد لدعم التعليم المجاني في جامعة مدينة نيويورك، وجامعة ولاية نيويورك. ويختتم البرنامج بمحاربة الهدر عبر إصلاح البيروقراطية وعمليات التعاقد، وتشديد الرقابة على المليارديرات والملاك المخالفين.


خارج ثنائية ديمقراطي-جمهوري


جاء ممداني نظرياً بصفته مرشحاً للحزب الديمقراطي، لكنه في الواقع من خارج المنظومة التقليدية فهو ينتمي إلى الاشتراكيين الديمقراطيين الأمريكيين الذين لم يستطيعوا العمل كحزب مستقل، بسبب نظام الحكم الثنائي الذي يحصر الحكم في الحزبين الديمقراطي والأمريكي، فلذلك كان على ممداني الفوز في انتخابات الترشح عن الحزب الديمقراطي، وتغلب على أندرو كومو الذي يمثل سلالة سياسية في الولايات المتحدة، وواجه العمدة الجديد ممانعة شديدة من قيادات بارزة في الحزب الديموقراطي، مثل: معارضته من قبل رئيس الأغلبية الديمقراطية في مجلس النواب حكيم جيفريز، وزعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ تشارلز شومر، وتغلب ممداني في حملته أيضاً على معارضة شخصيات بارزة، مثل: بيل كلينتون، ورجال أعمال من أصحاب المليارات مثل: مايكل بلومبرغ صاحب مؤسسة بلومبرغ الشهيرة، الذي قدّم ملايين الدولارات لدعم حملة كومو منافس ممداني، هذا فضلاً عن محاولات مؤسسات إعلامية كبيرة ومؤثرة، مثل: «نيويورك تايمز» تغيير نتيجة الانتخابات.
عبّر ممداني عن الموقف الذي ينطلق منه معلناً أنّه ضد «ضد حزبين فاشلين كلاهما لا يقدم حلولاً حقيقية للناس» وقال: إن «كلا الحزبين يدافعان عن نظام اقتصادي فاشل هو الليبرالية الجديدة»، وهذا بالتحديد ما يمكن الوقوف عنده طويلاً، فكان وصول ترامب إلى الرئاسة للمرة الأولى بمثابة مؤشر أولي على ضرورة تقديم شخصيات لا تنتمي إلى المنظومة التقليدية، لكنّ ترامب بخطابه
الشعبوي اليميني لم يكن قادراً فعلياً على الخروج من كونه ممثلاً لأصحاب الربح في نهاية المطاف، وتحوّل الصراع على دعم ترامب أو الهجوم عليه من داخل المنظومة نفسها إلى صراع بين نخب رأس المال.
وتجاوز زهران ممداني في حملته إلى حدٍ كبير تجربة بيرني ساندرز، فرغم طبيعة دور هذا الأخير خلال السنوات الماضية إلا أنه اعتمد في طرحه السياسي على برنامج اقتصادي مشابه في إطاره العام، ورغم دعم ساندرز لممداني واعتراف الأخير بأثر ساندرز على جيل من الشباب، ظلّ ما حققه ممداني أوضح وأكثر تأثيراً بالمشهد السياسي العام.


أرقام ودلالات كبيرة!


احتل المرشح الشاب وعمدة نيويورك الجديد مركزاً بارزاً في المشهد الانتخابي سريعاً، فاستطاع الحصول على ثقة فئات واسعة من سكان المدينة، لا من الناخبين التقليديين فحسب! بل تجاوز ذلك عبر ضخ جمهور جديد كان قد ابتعد عن العملية الانتخابية أصلاً، إذ وصلت نسبة المنتخبين الجدد الذين لم يشاركوا في أي انتخابات بين عامي 2012 و2024 إلى 25%، هذه النسبة شكّلت ارتفاعاً هائلة بالمقارنة مع النسبة ذاتها في عام 2021 إذ لم تتجاوز نسبة مشاركة المنتخبين الجدد سوى 3% من إجمالي المصوتين حينها، واستقطبت العملية الانتخابية الشباب بنسبٍ قياسية، إذْ تجاوزت أعداد الناخبين الشباب للمرة الأولى أعداد الأكبر سنّاً. ومن الجدير بالذكر أن حملة ممداني تلقت دعماً من جيش كبير من المتطوعين تجاوز 100 ألف متطوع حيث طرق هؤلاء الأبواب وتحدثوا مباشرة مع الناس، مبرهنين بذلك على القدرة الهائلة للتنظيم البشري الحي في هزيمة ماكينات إعلامية ضخمة تحتاج مليارات الدولارات لتشغيلها!


عن «إسرائيل» والاستنتاجات الأخرى!


قال الرئيس ترامب في شهر أيلول الماضي: إنه كان يتعين على من يريد العمل في السياسة داخل الولايات المتحدة الأمريكية أن يمتنع عن انتقاد «إسرائيل» لكنّه أشار إلى أن ذلك يتغيّر الآن! هنا جاء فوز ممداني بمثابة برهانٍ قاطع على ذلك! ورغم كلمات ترامب السطحية على منصته تروث سوشال حيث قال قبل التصويت: «أي يهودي يصوت لزهران ممداني، الكاره المُعلن لليهود، هو شخص غبي» ورغم أن أكثر من ألف حاخام وقّعوا على عريضة تدين ترشحه إلا أن ممداني فاز بعد أن حصل على 50.4 من الأصوات بمقابل %40.6 لكومو، بل إن ثلث الجالية اليهودية في نيويورك صوتت لصالحه.

إن الخطر الحقيقي الذي يمثله فوز ممداني بالنسبة للنخب التقليدية في الولايات المتحدة ينطلق من حجم التأييد الشعبي لثلاثية جديدة في الخطاب السياسي، بندها الأول برنامج اقتصادي يعبر عن مصالح عشرات الملايين من أصحاب الدخل المحدود وينهي ميزات الأغنياء، والثاني مناهضة للثنائية الحزبية التي فرضت على الأمريكيين حزبين ببرنامج اقتصادي اجتماعي واحد، أما البند الأخير في هذه الثلاثية فهو موقف معادٍ للحركة الصهيونية ومناصر للقضية الفلسطينية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1251