العلاقات الفرنسية الجزائرية: بين الذاكرة الاستعمارية وتنافس النفوذ في جنوب المتوسط
معتز منصور معتز منصور

العلاقات الفرنسية الجزائرية: بين الذاكرة الاستعمارية وتنافس النفوذ في جنوب المتوسط

تشهد العلاقات الفرنسية الجزائرية تطورات متسارعة تُعيد رسم خريطة التفاعل بين البلدين، لا سيما في ظل تداخل الملفات التاريخية والدبلوماسية والأمنية والاقتصادية. وإذا كانت قضية الاعتذار عن الحقبة الاستعمارية لا تزال تشكّل نقطة توتر جوهرية، فإن العوامل الأخرى باتت تطفو على السطح بقوة، مُعلنة أن العلاقة بين الجزائر وفرنسا لم تعد محصورة في الماضي، بل أصبحت معركة حاضرة ومستقبلية على النفوذ، والشراكة، وموازين القوة في منطقة جنوب المتوسط.

منذ أشهر، تشهد العلاقات الثنائية توتراً متصاعداً، تجلّى في أزمة دبلوماسية مفتوحة، بدأت بإجراءات فرنسية تجاه البعثة الجزائرية في باريس. فقد أعلنت فرنسا عن تقييد دخول الموظفين الدبلوماسيين الجزائريين إلى المناطق المخصصة في المطارات الفرنسية، في خطوة وُصفت بأنها «استفزازية» وغير مسبوقة. رداً على ذلك، أعلنت وزارة الخارجية الجزائرية رفضها القاطع لهذا الإجراء، مؤكدة أن «الحل الوحيد المتوافق مع الالتزامات الدولية والثنائية يكمن في استعادة بطاقات الوصول الدائم» لموظفي السفارة والقنصليات الجزائرية في فرنسا. كما شدّدت الجزائر على تطبيق مبدأ «المعاملة بالمثل»، مشيرة إلى أن أي تدبير فرنسي سيقابل برد مماثل.

أزمة بأبعاد مختلفة

هذا التصعيد الدبلوماسي لا يعكس مجرد خلاف بروتوكولي، بل يُجسّد صراعاً أعمق حول طبيعة العلاقة بين البلدين. فالجزائر، بوزنها الإقليمي الكبير، ودورها المحوري في ليبيا، والصحراء الغربية، والساحل الأفريقي، وعلاقاتها المتنامية مع دول «كونفدرالية الساحل» لم تعد تقبل بعلاقة تفرض فيها باريس شروطاً أحادية. بل تسعى إلى شراكة متكافئة، تُحترم فيها السيادة، وتُبنى على الندية، وليس على نموذج التبعية الذي طالما ساد العلاقات الفرنسية مع بلدان أفريقيا.

وقد زاد من حدة التوتر تصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في صحيفة «لو فيغارو»، حيث أعلن أن حكومته ستتخذ «قرارات إضافية» للتعامل مع الجزائر بـ «مزيدٍ من الحزم»، متهماً السلطات الجزائرية بتجاهل «الدعوات المتكررة» للتعاون. تصريح ماكرون، الذي جاء في سياق داخلي حساس، يُنظر إليه على أنه جزء من حملة سياسية داخلية، تسعى إلى استثمار قضايا الهوية، والهجرة، والتاريخ الاستعماري، لتعزيز موقفه في مواجهة صعود اليمين واليمين المتطرف في فرنسا. لكنه، في الوقت نفسه، يُظهر تشبثاً من قبل النخبة السياسية الفرنسية بمنطق الهيمنة، ورفضاً للتعامل مع الجزائر كشريك استراتيجي متساوٍ.

الجزائر في موقع أفضل!

إذا كان البعد الدبلوماسي والسياسي يُشكّل محور التوتر الحالي، فإن البعد الاقتصادي لا يقل أهمية. ففي أعقاب أزمة الطاقة التي شهدتها أوروبا بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، أصبحت الجزائر تُعدّ من المورّدين الأساسيين للغاز الطبيعي إلى فرنسا، ما منحها ورقة ضغط استراتيجية هامة. ومع ذلك، لم تعد فرنسا الشريك التجاري الأول للجزائر، إذ تراجعت إلى المرتبة الثانية خلف الصين، التي أصبحت الشريك الاقتصادي الأول في التبادل التجاري. هذه المعطيات، إلى جانب تنوّع الشراكات الجزائرية مع دول «البريكس»، تمنح الجزائر مرونة استراتيجية كبيرة، وتُضعف من ورقة الضغط الاقتصادية التي كانت فرنسا تعتمد عليها تقليدياً.

ما يحدث اليوم في العلاقة الفرنسية الجزائرية هو جزء من تحوّل أوسع في القارة الأفريقية. فالدول الأفريقية، ومنها الجزائر، لم تعد تقبل بمنطق «الفرنكوفونية» أو «النفوذ الاستراتيجي» الذي تمارسه فرنسا بطرق تُشبه سياسات الحماية. فما حدث في مالي، والنيجر، والتشاد، من انسحابات متتالية للقوات الفرنسية تحت ضغط شعبي وحكومي، يُظهر أن نموذج الهيمنة لم يعد مقبولاً. والجزائر، بثقلها السياسي، وسياستها الخارجية المستقلة، تُقدّم نموذجاً مغايراً: دولة لا تسعى للقطيعة، لكنها لا تخشى مواجهة أي ضغوط تُمسّ سيادتها.

وفي هذا السياق، حذّر سليمان زرقاني، نائب رئيس المجلس الشعبي الوطني، من أن «الكرة الآن في ملعب فرنسا: إما أن تقبل باريس بشراكة مع جزائر مستقلة، أو تفقد حليفاً استراتيجياً في جنوب المتوسط إلى الأبد».

في الختام، إن متابعة التطورات في العلاقة الفرنسية الجزائرية تُقدّم درساً واضحاً: زمن التسلط، والتهديد، والتدخل، وفرض الشروط من طرف واحد، قد ولّى. فالعالم يتغير، والخيارات الاستراتيجية تتوسع أمام الدول التي تبحث عن استقلالها وتدافع عن سيادتها الوطنية. والجزائر، بسياستها الخارجية، وعلاقاتها المتنوعة، واعتمادها على شراكات متعددة، تُثبت أنه بإمكان دولة الجنوب فرض الندية على جميع الدول، وتُدافع عن مصالحها الوطنية دون تبعية. والسؤال الآن، ليس هل ستتراجع فرنسا؟ بل: هل ستقبل فرنسا التعامل مع الجزائر كشريك متساوٍ في قارة تبحث عن عدالة جديدة، وعلاقات دولية أكثر توازناً؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
1239