شعوب الجنوب في قارب واحد.. وكفاحها واحد

شعوب الجنوب في قارب واحد.. وكفاحها واحد

الرابع والعشرون من تموز ليس فقط يوماً وجدانياً هاماً للشعب السوري، يستذكر به معركة ميسلون التي خاضها يوسف العظمة ليخطّ تفاصيل هوية الإنسان السوري، ويجسد بالأفعال معنى الكرامة الوطنية في مقاومة المستعمر، بل شاءت الأقدار أن يكون التاريخ ذاته يوماً تحتفل فيه شعوب فنزويلا، كولومبيا، الإكوادور، بيرو، وبوليفيا بميلاد قائدهم المحرر من الاستعمار الاسباني سيمون بوليفار (1783ـ 1830).

مراسل قاسيون ـ كاراكاس ـ فنزويلا

في هذه المناسبة، احتضن معهد سيمون بوليفار في العاصمة الفنزويلية كاراكاس في 23/ 24 تموز الحالي مؤتمراً دولياً بعنوان «من أجل إنسانية أكثر إنسانية» جمع وفوداً من المفكرين والسياسيين والنشطاء من أربعين دولة، وخصوصاً من دول الجنوب العالمي. جاء المؤتمر في لحظة دولية دقيقة تتعاظم فيها التحديات أمام الشعوب الساعية إلى التحرر من نير نظام امبريالي يفرض عليها أشكالاً مختلفة من الاضطهاد، فمن دول ترزح تحت العقوبات، إلى أخرى تحكمها أنظمة فاشية تحرس مصالح الغرب، إلى دعم الجريمة المنظمة والمافيات والإرهاب، إلى الحروب المباشرة. أعقب انتهاء أعمال المؤتمر «قمة الشعوب ضد الحرب» التي دعا إليها الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو. كما دعت الحكومة الفنزويلية الوفود الدولية للمشاركة بمراقبة الانتخابات المزمع عقدها في الأحد 27 تموز الجاري لضمان الشفافية، ولترسيخ نموذج فريد من الديمقراطية مفتوح لرقابة شعوب العالم.

في هذا المقال تقدم لكم «قاسيون» عدداً من مداخلات ضيوف المؤتمر، التي تعكس هموماً مشتركة نعيشها مع شعوب دول الجنوب الأخرى الرازحة تحت عنف الإمبريالية، عسى أن تكون ملهمة لنا أيضاً كسوريين لنقدم أجوبة عن أسئلة تطرحها علينا الحياة يومياً.

معركة الرموز

أكدت آنابيل دياز الباحثة الاجتماعية الفنزويلية: أن الفكر البوليفاري هو الذي يدفع شعوب المنطقة في أمريكا اللاتينية للبحث عن المشتركات بدل الصراع، وهو التي يوضح الأفق التاريخي المشترك. لقد تعرض سيمون بوليفار لعملية تشويه هائلة من الولايات المتحدة، لأنه ذاك المحرر الذي قال مبكراً: إن الاستقلال الحقيقي لأمريكا اللاتينية لا يكتمل دون عدالة اجتماعية ووحدة قارية، فقاد حركة الاستقلال من نير الاستعمار الإسباني ليس فقط في فنزويلا، بل أيضاً في كولومبيا، الإكوادور، بيرو، وبوليفيا، وحذر مبكراً من خطر الولايات المتحدة على دول أمريكا اللاتينية. بالمقابل، تقدم الولايات المتحدة بوليفار بوصفه فارساً رومانسياً حالماً وتعمل على إفراغ فكره من البعد التحرري الراهن. فالولايات المتحدة تدرك جيداً ضرورة ترك الشعوب يتيمة بلا رموز وطنية. وأكدت دياز: إننا اليوم في معركة رموز لا تقل أهمية عن أي جبهة أخرى.

التعامل مع التاريخ

تحدثت الدكتورة آليدا غيفارا ابنة أرنستو تشي غيفارا عن العقوبات والمصاعب التي واجهتها كوبا منذ عقود، وأكدت: إن «الوصول إلى السلطة أمر ممكن مع بذل كثير من التضحيات، إلا أن الاحتفاظ بها مستحيل دون دعم الشعب ووحدته» وأكدت على دور وعي الشباب في تحرر أي بلد، «فالجيل الجديد يجب أن يعرف تاريخ بلاده ورموزها ليكون ثورياً بحق» لكن أيضاً عليه أن يتعلم من الخيبات دون فقدان الدافع الثوري، وذكّرت بمقولة إيفو موراليس أول رئيس من السكان الأصليين في أمريكا اللاتينية: «من الممكن أن نخسر حرباً لأننا لسنا مستعدين لها كفاية، لكن من الخطير أن نعلّم الجيل التالي أن هذه هزيمته».

الإرهاب والجريمة أدوات الإمبريالية للسيطرة

قالت الباحثة الاقتصادية المكسيكية آنا إستر سيسيانا: إننا «نمر اليوم بأحلك الأزمنة، ففي أمريكا اللاتينية تزداد الجريمة المنظمة والإرهاب والخوف، فعندما تريد الدول الاستعمارية السيطرة على الثروات من الليثيوم وغيرها من الموارد الأولية الضرورية خاصة لتصنيع الأسلحة، يعملون على إنشاء بيئة طاردة للسكان، ثم يضعون اليد على الثروات بتيسير من هذه العصابات. ثمة محاولة لتطبيع حالة المافيات في المكسيك وكأنها جزء من ثقافتنا، ولكن في الحقيقة الأخلاقيات المافيوزية مفروضة على المجتمع المكسيكي» وإن المجتمع المكسيكي لازال يقدم التضحيات لطردها دفاعاً عن الوطن.

آلام أمهات مايو

شاركت مناضلات من حركة «أمهات مايو» في المؤتمر، وهي حركة نشأت في الأرجنتين خلال فترة الحكم الدكتاتوري العسكري من 1976/ 1983 والتي بدأت بحكم جورجي رافائيل فيديلا، الجنرال الذي أطلق ما كان يسمى «الحرب القذرة» للتخلص من معارضيه، حيث تم اختطاف وتعذيب وقتل آلاف المعارضين السياسيين (حوالي 30,000 شخص)، معظمهم من الشباب والطلاب والنشطاء اليساريين. وقتئذ بدأت الأمهات بالتجمع في ساحة مايو وسط العاصمة في بوينس آيرس مقابل القصر الرئاسي، وارتدين الأوشحة البيضاء وعليها أسماء أبنائهن وجُلن بها في وجه العساكر. ورغم أن بعضهن اعتقل، إلا أن مشهد هذا العدد الهائل من الأمهات اللاتي أضناهن الألم وإصرارهن على المواجهة حتى معرفة مصير أبنائهن ومحاسبة الجناة حوّل المزاج الشعبي ليذكّر بأن العدد الهائل من الأمهات المكلومات في بلد ما قد يصبحن قوة جارفة أقوى تأثيراً من مكنات إعلامية تصرف عليها ملايين الدولارات في حشد الشارع.

الإنترنت وجبهة المعركة الجديدة

أكدت ماريا باولا الكاتبة والصحفية في موقع نودال الأرجنتيني في مداخلتها: إننا اليوم في لحظة تغيير جذري شامل مع وجود الإمبريالية في مرحلة تراجع، وأن من أهم التغييرات التي يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار هو ما حدث بعد أزمة كورونا من تغيير في طبيعة علاقتنا بالعالم الرقمي، فهناك 8 مليارات إنسان على الأرض، منها خمسة مليارات يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة، مثلا: ميتا لديها حوالي ثلاثة مليارات مستخدم. الخطير أن آخر الإحصائيات تدل أن الشخص العادي صار يمضي يومياً حوالي 8 ساعات على اتصال بوسائل التواصل الاجتماعي من واتس آب إلى ريلز وتك توك وغيرها. ثماني ساعات من اليوم يظن المرء واهماً أنه يسلي نفسه أو يرتاح عبرها، إلا أنه يقوم فعلياً بعمل مجاني لمالكي هذه الوسائل، وبإنتاج داتا تستخدم لاحقاً لمزيد من التحكم بالمستخدم واستعباده، وأحيانا دفعه للقيام بأعمال ضد مصلحته، خاصة عندما يتعلق الأمر بالتحكم بالعمليات السياسية كالانتخابات والحروب الأهلية.

من الجدير بالذكر، أن جميع مداخلات المؤتمر تطرقت للقضية الفلسطينية واعتبرتها قضية دولية تخص كل حر على وجه الأرض، كما أنها تعري النظام الإمبريالي تماماً. ودعت جميع الحكومات والشعوب إلى الانتقال من الأقوال إلى الأفعال في دعم فلسطين لإيقاف الإبادة الجماعية في غزة.

المؤتمر دعا الشعوب للوحدة كطريق وحيد للنصر، ودعا للتفكّر بالطرائق الجديدة للنضال، إذ لا يمكن أن ننتصر في القرن الواحد والعشرين بأدوات القرن العشرين. اليوم وتحت ضغط الواقع تطرح الشعوب سؤالاً: ما العمل؟ إن قوة الشعوب في عقلها الجمعي لإيجاد التقاطعات والحلول الإبداعية للانتقال لعالمٍ أكثر توازناً وعدالة وسلاماً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1236