مفاوضات متوازية .. ترسم التخوم وتثبّت الأوزان

مفاوضات متوازية .. ترسم التخوم وتثبّت الأوزان

خلال الأيام الماضية، تكشفت ملامح نزعة عدائية متصاعدة في سلوك الكيان الصهيوني، مدعومة بتيار نافذ في الولايات المتحدة. هذه النزعة تضعنا أمام تباينات صارخة في ثلاثة ملفات مركزية: أوكرانيا، غزة، وإيران.

هناك مفاوضات دائرة الآن في ثلاثة أماكن مؤثرة وفي وقتٍ متزامن، يمكن لنتائجها أن تحدد اتجاهاً دولياً عاماً وهو ما لا يمكن رؤيته بوضوح إذا ناقشنا كل مسألة بشكلٍ منفرد، فالقاسم المشترك بين هذه الملفات أنّها نتيجة سياسات غربية محددة ظلّت قائمة لعقود، ولكنّها دخلت اليوم في تناقضات حقيقية مع اتجاه مختلف لتطور المشهد الدولي، ولم تعد ملائمة كما يبدو للتيار الانكفائي الأمريكي الذي يعبر عنه الرئيس دونالد ترامب وفريق عمله المصغر، الذي يبدو أكثر نفوذاً في الملفات الحساسة الأساسية من أي جهاز آخر في واشنطن.

مفاوضات متزامنة

في نظرة أولية، يبدو وضوحاً أنه ستكون هناك تداعيات مباشرة للمفاوضات، فبالنسبة لموضوع غزّة ظلّت الحرب تؤدي مجموعة من الأدوار كان أكثرها أهمية هو العمل على إشعال صاعق التفجير في المنطقة، ودفعها نحو فوضى شاملة وغير مسبوقة، وأدت الحرب أيضاً دوراً في إخفاء حجم الأزمة الوجودية التي تضرب الكيان. أما بالنسبة لأوكرانيا فكانت الملف الذي استثمرت فيه واشنطن طويلاً، وعملت على تحويل البلد إلى ساحة حرب بهدف ضرب روسيا واستنزافها، وأيضاً عبر ضرب واستنزاف الأوروبيين الذين ينظر لهم بوصفهم منافس للولايات المتحدة، وكانت الأخيرة تنتظر انفجار روسيا داخلياً وتراقب ببطء تداعيات هذه الحرب على الدول الأوروبية، ومع أن تأثيرات الحرب كانت واضحة، إلّا أنّها لم تصل إلى الحد المطلوب أمريكياً.

أما الملف الثالث وهو إيران، فهو الآخر يرتبط إلى حدٍ كبير بمشروع توتير الشرق الأوسط، فبعيداً عن موضوع البرنامج النووي الإيراني، ظلّ السلوك الغربي والأمريكي خاصة يعمل على إبقاء إيران في حالة عزلة مع عمل أمريكي دؤوب على تغذية جملة من الخلافات بينها وبين دول الجوار، التي استندت إلى حدٍّ كبير على بنية الأنظمة السياسية في الإقليم كافة، ولكن هذا المسار لم يحقق الهدف المنشود أيضاً، بل بدأنا نرى نتائجاً معاكسة منذ شاركت إيران إلى جانب تركيا في مجموعة آستانا في سورية، ووضعوا مع روسيا هدفاً مشتركاً هو إخراج الولايات المتحدة من المنطقة، ثم والأهم كان تطبيع العلاقات مع السعودية برعاية صينية.

لا شك أن هناك في الولايات المتحدة من يقيّم السياسات، ولا يعقل أن تكون سياسة محددة صالحة لكلِّ زمانٍ ومكان، فمحاولات عزل إيران مستمرة منذ الثورة الإسلامية في 1979، أيّ أن 45 عاماً مرّت منذ فرضت الولايات المتحدة أول عقوبات على طهران، والحرب في أوكرانيا مستمرة منذ 2022 ومرّ عليها حتى الآن أكثر من ثلاث سنوات من بدء المواجهات العسكرية المباشرة، لكن جذور الصراع يمكن أن تعود للعام 2014 أو حتى إلى تسعينيات القرن الماضي، لم تختلف فيها فعلياً استراتيجية واشنطن حيال هذا الملف، أما بالنسبة لغزّة والأراضي الفلسطينية المحتلة يمكن أن نقول: إن الحرب لم تتوقف من 1948 ويعتبر العدوان الصهيوني الحالي على غزّة الأطول في تاريخ الكيان، فالحرب الدائرة الآن استمرت لـ 596 يوماً، بينما لم تستغرق حرب 2006 في لبنان سوى 34 يوماً، وفي اجتياح بيروت 1982 استمرت المعارك 84 يومأً وفي حرب 1973 20 يوماً ..إلخ

وبالنظر إلى الأهداف العميقة لكلٍ من هذه الملفات، نرى وضوحاً أنّ الولايات المتحدة لم تحقق المطلوب منها بالمعنى الاستراتيجي العام، ومع أن «إسرائيل» ضمنت خلال عقود مستوىً محدداً من الهيمنة، وفرضت نفسها بوصفها القوة الإقليمية الأكبر برعاية أمريكية، إلاّ أنّها فشلت في العقدين الماضيين في تحقيق أهداف حروبها، وتلقت ضربات استراتيجية حقيقية.

واقع لا يمكن إنكاره!

في هذا السياق، علينا أن نعود لطرح السؤال البسيط: ما الذي أرادته الولايات المتحدة من كلِّ هذا؟ والجواب هو أنّها أرادت الحفاظ على مستوى مرتفع من الهيمنة مع ما يحققه ذلك من شفطٍ للثروة من العالم بأشكال ووسائل مختلفة كانت الفوضى عمادها الأساسي، وكانت درجة العدوانية الأمريكية تتناسب طرداً مع تعاظم أزمتها، ولكن في نهاية المطاف لم تستطع هذه العدوانية ضرب وكسر المنافسين الآخرين، ولم تنجح أيضاً في الحفاظ على مستوى الهيمنة السابق حتى بالمعنى العسكري، ما أنتج مشاهداً كانت تبدو «خيالاً علمياً» قبل سنوات قليلة، ففي عام 2025، سجّل التاريخ سابقة نوعية: للمرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية، تلقّت حاملات الطائرات الأمريكية ضربات مباشرة. نفّذت ذلك جماعة صغيرة في اليمن، بقدرات تسليح متواضعة، وأجبرت حاملات الطائرات على الانسحاب.

الملفات الثلاثة الموضوعة على طاولة المفاوضات هي في الواقع جزء من مفاوضات أشمل تجري في العالم على عدد كبير من القضايا، ليس آخرها التعريفات الجمركية، وإذا ما نظرنا إلى التاريخ نرى أن هذا النوع من المفاوضات وإن كانت تعالج قضايا جزئية في بقاع جغرافية مختلفة من العالم، إلا أنّها تشكّل مجتمعة مفاوضات عالمية لإعادة رسم التخوم بين الفاعلين الدوليين، وهي تذكرنا إلى درجة كبيرة بمفاوضات يالطا ومفاوضات ما بعد الحرب العالمية الثانية، أو المفاوضات في سبعينيات القرن الماضي في عدة نقاط متفرقة من العالم، ثم المفاوضات التي ترافقت مع انهيار الاتحاد السوفييتي في تسعينيات القرن الماضي، وفي كلِّ محطة من هذه المحطات كان تجري مفاوضات بهدف تثبيت أوزان الأطراف المختلفة.

المفاوضات الحالية، والتي يجري بعضها بالخفاء، وحول ملفات لم تُعلن، هي في الحقيقة تباشير نشوء واقع جديد، وإن كانت ملامحها النهائية لم تنكشف بعد، إلا أننا وإذا ما نظرنا إلى وزن الأطراف التي تجلس حول الطاولة، ندرك أن الولايات المتحدة ليست الرقم الأصعب هذه المرة ،كما في التسعينيات والسبعينيات، وإن كانت تضع على الطاولة أوراقاً جدية، فأوراق الآخرين كثيرة ومؤثرة أيضاً، على هذا الأساس تبدو نتائج المفاوضات الجارية حاسمة إلى حدٍ كبير، ونظراً لأهميتها، ربما تحتاج جولات كثيرة وانتكاسات، لكّنها تثبت اتجاهاً عاماً لا رجعة عنه، فنحن على يقين أن داخل الولايات المتحدة تيار لا يوافق على سلوك فريق الإنكفاء، ولدى هذا التيار أذرع وأدوات تحكّم حول العالم، وهو لذلك قادر على التأثير هنا وهناك، ويستطيع ممارسة الضغوط في الداخل الأمريكي، لكن ما نشهده اليوم يشير إلى أن فرصه في عكس الاتجاه الحالي قليلة حقاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1228