ترامب في الخليج… قلق «إسرائيلي» وتنازلات أمريكية!
اختار الرئيس دونالد ترامب أن تكون زيارته الدبلوماسية الأولى خارج الولايات المتحدة إلى الخليج، مؤكداً على رغبته في إبرام صفقات كبرى وتوسيع نطاق تبادل المنفعة، فبين 13 و16 من شهر أيار الجاري عقد الرئيس الأمريكي لقاءات مع قادة ومسؤولين في كلٍ من السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة، ومن خلال استعراض جدول الأعمال المزدحم وما خرج عنه يبدو أننا ندخل بالفعل مرحلة جديدة.
مع انتهاء زيارة ترامب ظهرت تأكيدات على مناخ مختلف عن كل الزيارات الأمريكية السابقة حتى تلك التي حصلت في دورة ترامب الرئاسية الأولى في 2017، إذ قدّرت بعض التقارير أن قيمة الاتفاقيات المعقودة بلغت ما يقارب 4 تريليونات دولار، رقم ضخم استخدم كغطاء إعلامي، صرف الانتباه عن الأبعاد السياسية الأعمق التي حملتها الزيارة. لكن ذلك لا يلغي الحجم الهائل للاستثمارات التي يجري الحديث عنها.
في السعودية
ركّزت الاتفاقيات في السعودية على قطاع الدفاع وتسليح الجيش بشكل كبير، إذ حصلت السعودية على تعهدات بالوصول إلى أسلحة من بينها أسلحة متطورة من أكثر من 12 شركة تصنّع الأسلحة في الولايات المتحدة، بقيمة قدّرت بـ 142 مليار دولار ما جعلها «أكبر اتفاقية مبيعات دفاعية في التاريخ» بحسب وصف البيت الأبيض، هذا إلى جانب إعلان سعودي عن نيّة المملكة ضخ استثمارات بقيمة 600 مليار عبر شراكات اقتصادية استراتيجية في قطاعات متنوعة، مثل: الطاقة، البنية التحتية، والتكنولوجيا، وفي هذا السياق ترأس ترامب منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي إلى جانب مسؤولين سعوديين وقادة أعمال أمريكيين.
لكن أهم ما دار في الرياض، كان عقد نقاشات عن صفقة محتملة لتطوير برنامج نووي سلمي في السعودية مع ضمان عدم اعتراض الكيان، المفارقة أن هذه النقاشات تجاوزت الإشارة إلى شرط التطبيع مع «إسرائيل»، وهو ما كان يُعد شرطاً أساسياً في عهد الإدارة السابقة، ما يلمح إلى تغير في مقاربة واشنطن لهذه الملفات، وإن الوصول لاتفاقية من هذا النوع يعني أن تحصل السعودية على استثناء تتجاوز فيه المادة 123 من قانون الطاقة الذرية الأمريكي لعام 1954 ما قد يعني تطوير قدرات السعودية على تخصيب اليورانيوم على أراضيها.
في قطر والإمارات
لم يختلف المشهد في الدوحة كثيراً، إذ أكد الطرفان نواياهم في رفع التبادل الاقتصادي إلى حدود 1.2 تريليون دولار، يشمل قطاعات حيوية، مثل: الطاقة، والتكنولوجيا، والدفاع، مع تعهدات قطرية بشراء طائرات من شركة بوينغ، قدرتها بعض التقارير بـ 210 طائرات ما يجعلها أكبر صفقة في تاريخ الشركة.
أما في الإمارات، فقد أكدت الزيارة ما جرى الاتفاق حوله في آذار الماضي عن نيّة الإمارات ضخ استثمارات بقيمة 1.4 تريليون دولار في الولايات المتحدة، تشمل قطاعات، مثل: الطاقة، والتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، وشملت أيضاً صفقات تسليح بحدود 1.4 مليار دولار.
وكان أبرز ما جرى الاتفاق حوله، إنشاء شراكات ثنائية في أبحاث الذكاء الاصطناعي، وتأسيس مراكز ابتكار أمريكية في الإمارات، مع التركيز على الأمن السيبراني والمعايير الرقمية، وظهر بشكلٍ جلي، أن الإمارات نجحت هذه المرة في إنهاء القيود التي فرضت عليها في عهد الإدارة السابقة، بخصوص الوصول إلى الشرائح المتقدمة من شركة NVIDIA الأمريكية، نتيجة لمخاوف من انتقال هذه التكنولوجيا إلى الصين، فرضت إدارة بايدن قيوداً صارمة ورقابة شديدة على تصدير هذا النوع من الشرائح، لكن ترامب طوى هذه الصفحة وسمح للإمارات باستيراد أكثر من مليون شريحة متقدمة خلال السنوات الثلاث القادمة، ما يشير إلى قفزة كبيرة تعد لها الإمارات في هذا المجال، فهذا الرقم (500 ألف سنوياً) يفوق استهلاك الشركات الأمريكية الكبرى، فتستهلك ميتا مثلاً 100 ألف شريحة سنوياً، وهو رقم يكفي لتبيان حجم المشاريع التي تسعى الإمارات لتنفيذها، ما يمكن أن يحوّلها إلى مركز أساسي في الشرق الأوسط قادر على المنافسة على المستوى العالمي.
من 2017 إلى 2025
ترامب كان زار الخليج في 2017 وترافقت زيارته مع صفقات قدرت في حينه بـ 400 مليار دولار، لكن أرقام هذه الزيارة أكبر بكثير، حتى وإن أخذنا بعين الاعتبار أن الأرقام ليست سوى إعلان نوايا حتى الآن، وقد لا تنفّذ خلال آجال زمنية قصيرة، لكن ما يثير الانتباه حقاً في هذه هو أن المناخ الإقليمي العام بدا مختلفاً كلياً عن 2017، ففي ذلك الوقت كانت النبرة شديدة العدائية تجاه إيران وترافقت مع مستوى مرتفع من التوتر لا نرى ما يشبهه اليوم على الإطلاق، بل على العكس تماماً، إذ ظهر وضوحاً أن قادة الخليج ينظرون بعين الارتياح إلى المفاوضات النووية الأمريكية- الإيرانية، بل عقد قادة هذه الدول لقاءات ومشاورات مع إيران سبقت زيارة ترامب، ما يعكس مستوى من التنسيق والتفاهم مدفوعاً إلى حد كبير بالمصالح المتبادلة لتحقيق التوازن في منطقة تحتوي طاقات استثمارية كبرى، لا يمكن تحقيقها في ظل التوترات السابقة، أو حتى في ظل احتمالات الحرب الدائمة، فنوايا الإمارات مثلاً لبناء مركز عالمي للذكاء الصناعي والتخزين السحابي يحتاج بكل تأكيد إلى ضمانات بعدم انجرار المنطقة إلى مواجهات ساخنة، وهنا يبدو سلوك ترامب، وبعيداً عن التصريحات التي تستخدم للاستهلاك الإعلامي، واعٍ تماماً لهذه الحقيقة، بل يرى فيها مصلحة أمريكية، فالرئيس كان مستعداً للتنازل بحسب ما يبدو عن شروط سابقة كانت تربط الاتفاقات الاستراتيجية الكبرى مع السعودية بضرورة تطبيع علاقاتها مع «إسرائيل»، أما اليوم فلم يأت ترامب على ذكر ذلك، واكتفى بالقول: إنّه «سيكون مسروراً لو حصل ذلك»، وحاول خلال زيارته إرسال رسائل تفيد بعدم رضاه عن سياسة الكيان الحالية، فحتى وإن لم يكن صادقاً في ذلك، فهو بلا شك مضطر لإعطاء رسائل تطمين في هذا الخصوص، وهو مضطرٌ أيضاً إلى لجم الكيان الصهيوني، ومنعه من أيّ حماقات يمكن أن تعيق التوجه الأمريكي الجديد.
في «إسرائيل» يبكون بصمت!
إن ما جرى في الخليج أثناء زيارة ترامب من شأنه أن يضع ملامح جديدة للنوايا الأمريكية، وإن كانت الصورة لم تكتمل بعد، يظهر أن «إسرائيل» غير مرتاحة لما يجري حولها، ففي صحيفة «يسرائيل هيوم» قال المحلل يوآف ليمور: إن «الشرق الأوسط يُعاد تشكيله أمام أعيننا من خلال سلسلة من الاتفاقيات والاجتماعات، بينما تظل [إسرائيل]، في أفضل الأحوال، مراقباً على الهامش»، تكثر مثل هذه الآراء في الصحف «الإسرائيلية» وإن كان بعضها يأخذ أبعاداً درامية إلا أن الكيان يقف بالفعل أمام واقعٍ جديد.
بالتأكيد لا يمكن الاطمئنان إلى النوايا الأمريكية، ويسعى ترامب بلا شك لحجز مساحة يستطيع من خلالها التأثير على التطورات في الشرق الأوسط، إلاّ أنّه لا يرى خيراً في استراتيجية «إسرائيل» لإعادة تشكيل «الشرق الأوسط الجديد»، بل ربما لم يستطع الكيان تحقيق ذلك ضمن الآجال المقبولة أمريكياً، وبات الاستمرار بهذا النهج يهدد الولايات المتحدة بخسارة كلّ شيء، ولذلك كان لابد من استدارة حتى لو غضبت «إسرائيل».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1227