«أمريكا أولاً» حتى عند الحديث عن «إسرائيل»
لم يمض وقتٌ طويل حتى ظهر على الملأ أن زيارة رئيس الوزراء «الإسرائيلي» إلى واشنطن لم تكن إلا تكراراً «أكثر لباقة» لحفلة التوبيخ التي تعرّض لها الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي، إذْ روّج نتنياهو وفريقه منذ ترشح الرئيس ترامب لدورة رئاسية جديدة إلى طبيعة العلاقة «الدافئة» التي تجمع نتنياهو بترامب، لكن الأخير لا يوفر فرصة إلا ويذكّر بعصر الجليد القادم!
إن الارتباط الوثيق بين المشروع الصهيوني والولايات المتحدة التي تحوّلت لتكون المستثمر الأساسي فيه تحديداً بعد العدوان الثلاثي على مصر 1956، يخلق وهماً بأن هذه العلاقة ستكون أبديّة ولن تشهد أي هزّات، بل يرى البعض أن أي خلافات إن وجدت بين المصالح «الإسرائيلية» والأمريكية لن تسمح بتعكير صفو هذه العلاقة بشكلٍ جديّ، وذلك بالرغم من أنّها تشبه إلى حدٍ كبير العلاقة بين مستثمر ومشروع لم يعد يقّدم الإيرادات المطلوبة! ولدينا في الحدث الأخير مثالاً جيداً لعرضه في هذا السياق.
لوبي صهيوني قوي ولكن!
يميل عددٌ كبير من المفكرين إلى تفسير السلوك الأمريكي بوصفه نتيجة تأثير مباشر من قبل اللوبي «الإسرائيلي» على القرار الأمريكي، لكن كيف يمكن لأصحاب هذه الفرضية أن يفسروا نجاح هذا اللوبي أحياناً وفشله أحياناً أخرى؟ الجواب بسيط، فاللوبي ينجح عندما تكون الفئة العظمى من صناع القرار في الولايات المتحدة يرون في طرح هذا اللوبي ما يتماشى مع مصالحهم، وتفشل عندما يحدث العكس، فقبل زيارة نتنياهو الأخيرة إلى الولايات المتحدة في 8 نيسان الجاري، كانت «إسرائيل» تروّج إلى أن سبب الزيارة يرتبط إلى حد كبير بمسألة الرسوم الجمركية، وأن الإدارة الأمريكية يمكن أن تُعيد النظر بالتعرفة المفروضة على «إسرائيل» ليتبين لاحقاً أن مسألة الجمارك كانت بالفعل على جدول الأعمال، ولكنّها لم تكن البند الأكثر سخونة، إذ شملت المباحثات 4 قضايا، أولها: إيران وبرنامجها النووي، والثانية: ترتبط بتجدد الحرب على غزة ومستقبل عقد اتفاق مع حماس، وكانت سورية أيضاً على جدول الأعمال، والبند الأخير ركّز على مسألة التجارة والرسوم الجمركية، لكن مع متابعة المؤتمر الصحفي، وكل التسريبات التي تلت اللقاء، يتبين أن رئيس وزراء الكيان عاد «خالي اليدين» بحسب تعبير الصحافة «الإسرائيلية» فالرئيس الأمريكي على ما يبدو أعاد تحديد الخطوط التي يُسمح للكيان أن يتحرك ضمنها، وحذّر نتنياهو ضمنياً من مخاطر التعدي على المصالح الأمريكية، حين ذكره بحجم المساعدات التي تقدمها الولايات المتحدة لجيش الاحتلال.
عن الرسوم الجمركية
كانت «إسرائيل» أعلنت بشكل استباقي، أنها سترفع جميع الرسوم على السلع الأمريكية، إلا أن الخطوة لم تكن كافية لحمياتها، وقرر الرئيس الأمريكي فرض تعرفة تصل إلى 17% على كافة السلع «الإسرائيلية» بادعاء وجود عجز تجاري كبير لصالح الكيان! وكان الطرفان قد وقعّا عام 1985 اتفاقية للتجارة الحرة، أفضت إلى نشاط تجاري كبير وصل في 2024 إلى 37 مليار دولار. وبحسب «جمعية الصناعيين في [إسرائيل]» ستخسر «الصادرات الإسرائيلية» 2.3 مليار دولار بسبب الرسوم الجمركية، وقد ينتج عن ذلك أن يخسر ما بين 18 ألف إلى 26 ألف مستوطن وظائفهم، في ظل حالة اضطراب كبيرة يعيشها اقتصاد الكيان، وتحديداً بعد النفقات الكبيرة التي خسرتها «اسرائيل» في حرب غزة.
وعقب زيارة نتنياهو إلى الولايات المتحدة، تبين بشكلٍ جليٍّ أن ترامب لن يقدم للكيان أي تسهيلات بهذا الخصوص، وعند سؤاله عن إمكانية تغيير رأيه بشأن الرسوم المفروضة، أجاب: «ربما لا»! في إشارة إلى أن 17% هذه ستتحول حتماً إلى أداة ابتزاز أمريكية، وربما تستهدف ضبط السلوك الصهيوني في الشرق الأوسط من جهة، والعمل على نقل صناعات التكنولوجيا الفائقة إلى الولايات المتحدة.
عن إيران وسورية
ظهر على وجه نتنياهو ارتياح حينما تحدث ترامب عن أن الخيار العسكري مطروح مع إيران إن لم تدخل الأخيرة في مفاوضات مع واشنطن، لكنه سرعان ما تبين أن ترامب أبلغ نتنياهو بأن أيران مستعدة للتفاوض، وهذا ما بدأ تداوله على نطاق واسع في الصحافة، بل وبدأت الأنباء تتحدث عن عقد لقاء تمهيدي في سلطنة عمان في 13 نيسان الجاري، ما يعني أننا أمام تحضيرات لمفاوضات مباشرة دون وسيط بين إيران والولايات المتحدة، وهو ما يعني أن الخيار العسكري ليس مطروحاً بالشكل الذي جرى الترويج له، أي أن ترامب يريد من «إسرائيل» ألا تفكّر في العمل باتجاه معاكس، عبر الإعلان بشكلٍ صريح عمّا تفرضه المصلحة الأمريكية في اللحظة الحالية، وإن كانت ملامح المفاوضات غير واضحة حتى الآن، إلا أن مخرجاتها لن تؤدي حتماً لتفكيك البرنامج النووي الإيراني، وربما ستجد واشنطن نفسها في موقع أضعف بالمقارنة مع المفاوضات السابقة التي انسحب ترامب من الاتفاق الذي نتج عنها.
من جانب آخر، وبعد أن كان نتنياهو يتوقع دعماً أمريكياً للاعتداءات «الإسرائيلية» في سورية، أبدى الرئيس الأمريكي موقفاً مغايراً، بعيداً عن الطريقة التي تحدث فيها ترامب عن المسألة، يبدو أننا أمام موقف أمريكي يرى ضرورة الوصول إلى توافق مع تركيا بدلاً من إطلاق يد الكيان في هذا الملف، بل وطلب ترامب من نتنياهو وعلى الهواء وأمام الجميع، بأن يتصرف بشكلٍ «عقلاني».
غزّة والحرب
إن كان موضوع الحرب في غزّة لم يحسم بعد، إلا أن ترامب قال: إن «الحرب ستتوقف في مرحلة ما لن تكون في المستقبل البعيد للغاية» وهي إشارة تضاف إلى بدء دخول الولايات المتحدة بشكل مباشر على خط المفاوضات مع حماس، وبعيداً عن «الإسرائيليين» ما يجعل من المنطقي التفكير بأن الآجال الزمنية الممنوحة لنتنياهو قاربت على الانتهاء، حتى أن أودي سومر الخبير في العلاقات بين الولايات المتحدة والكيان في جامعة تل أبيب، قال: إن «إسرائيل» لم تحصل على «شيك مفتوح من واشنطن» وقال أيضاً: «لسنا أمام حب غير مشروط» بل إن واشنطن بحسب سومر تنتظر من «إسرائيل» أن تتصرف بشكل محدد.
وإن عدنا إلى الأيام الأولى من حرب غزة، فقد كان واضحاً أن الولايات المتحدة رأت الفرصة سانحة لتسخين المنطقة، ولذلك كانت المليارات الكثيرة التي جرى تقديمها لدعم الحرب وسيلة لا لدعم «إسرائيل» فحسب، بل في الواقع لاستخدامها بغرض تأجيج التناقضات داخل الدول الأساسية في المنطقة، بغية تفجيرها لكن هذا لم يحدث، ما يدفع صناع القرار في واشنطن إلى التفكير بشكل مختلف، حتى لو أدى ذلك إلى ارتدادات كبيرة داخل «إسرائيل» ففي واشنطن لن يكون دخول نتنياهو إلى السجن، وحدوث هزات كبرى في النظام السياسي «الإسرائيلية» إلا ضريبة لا بد من دفعها في نهاية المطاف، ما يفتح الطريق أمام الأطراف الفلسطينية لتوحيد صفوفها، وحصاد ما يمكن حصاده على ضوء الواقع الجديد.
في الختام، يبدو أن نتنياهو لم يستطع تحقيق أيّاً من الأهداف الموجودة على جدول أعمال المفاوضات مع الرئيس الأمريكي، بل ثبَّت الأخير مصالح بلاده، وأكد أنّه يملك بالفعل قدرة هائلة لفرض ما يريد على «الإسرائيليين» وليس العكس!
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1222