الحرب التجارية العالمية.. من مع النظام؟ أَقائمٌ على القواعد أم على القوة؟

الحرب التجارية العالمية.. من مع النظام؟ أَقائمٌ على القواعد أم على القوة؟

أفترض أن غالبية من يقرأ هذا المقال، هم نحن، من أهل الجنوب العالمي، وربما نتشارك الدهشة إذ نشاهد على التلفاز تظلٌّم دول الغرب ليل نهار مؤخراً، فترامب ومنذ بدء الفترة الرئاسية أعلن أن الولايات المتحدة تتعرض لمظلومية شديدة في علاقاتها التجارية مع الدول الأخرى، مما يجعل ميزانها التجاري خاسراً، وعليه فقد أعدّ العدة لحربه التجارية، وبدأ بفرض قيود وتعرِفات جمركية على الجميع بما فيهم حلفاؤه!! من جهة أخرى تطل علينا وزيرة الخارجية الألمانية آنالينا بيربوك متشحة بالسواد، وتعلن بجنائزية إن «حقبة جديدة يسودها انعدام الضمير قد بدأت» مترحمة على «العالم القائم على القواعد لصالح عالمٍ قائمٍ على القوة».

ما هي استراتيجية الولايات المتحدة من حرب التعرفة الجمركية

قامت الولايات المتحدة الأمريكية على مر سنوات طويلة بنقل الكثير من عمليات إنتاج السلع إلى خارج حدودها، لأسباب مختلفة، أهمها: انخفاض تكاليف الإنتاج، وكان ميزانها التجاري في عجز (أي حجم الواردات أكبر من الصادرات) منذ السبعينات. بحسب مقالة نشرت مؤخراً في مجلة السياسات الاقتصادية، فالحرب التجارية للولايات المتحدة تهدف لتغيير زاوية النظر إلى عجز ميزانها التجاري الذي بلغ98.4 مليار دولار في كانون الأول 2024، فعوضاً أن يكون عاملاً سلبياً للولايات المتحدة، تسعى إدارة ترامب لفرض تعاريف جمركية عالية على الواردات. أكبر الموردين للولايات المتحدة هم على الترتيب: المكسيك، الصين، كندا، ألمانيا. وهذا ما يفسر القرارات الأخيرة التي اتخذها ترامب بدءاً بهذه الدول.
إلا أن هذا النوع من الإجراءات يؤدي عادة إلى إجراءات انتقامية من الدول المعنية، فمثلاً: إذا طبقت الولايات المتحدة تعرفة جمركية عالية على السيارات الألمانية، فمن المرجح أن تقوم ألمانيا بإجراءات انتقامية فيما يخص شركات التكنولوجيا. لماذا التكنولوجيا؟ لأن هذا القطاع المتركز في السيليكون فالي ساهم في التقليل من عجز الميزان التجاري، حيث أن الولايات المتحدة هي الأولى في تصدير هذه الخدمات، وأهم أسواقها على الإطلاق، هو الاتحاد الأوروبي. فتطبيق تعرفة جمركية على البضائع الأوروبية قد يقابله رد على قطاع التكنولوجيا. لسحب هذه الورقة من الاتحاد الأوروبي، قامت الولايات المتحدة بخطوة استباقية في مؤتمر الأمن في ميونخ بالضغط على أوروبا عبر ملف الأمن. فمقابل استمرار الناتو والدعم العسكري لأوروبا تريد الولايات المتحدة من أوروبا تسهيلات لقطاعها التكنولوجي، حتى لو طبقت تعرفات جمركية عالية على البضائع الأوروبية الداخلة إلى السوق الأمريكي.

نظام قائم على القواعد أم على القوة!

منذ بدأ السجال حول التعرفة الجمركية تتعالى الأصوات داخل المعسكر الغربي من كل حدب وصوب للدفاع عن «النظام القائم على القواعد» مقابل نظام «قائم على القوة». سنأخذ في هذا المقال منظمة التجارة العالمية WTO كمثال على إحدى مؤسسات هذا النظام العالمي القائم على القواعد لتوضيح بعض القواعد ذات الصلة.
تأسست منظمة التجارة العالمية WTOعام 1995 وهدفت بشكل رئيسي للمساهمة مع (غيرها من المنظمات) بتوسيع نفوذ الدول الإمبريالية في الأسواق العالمية، في مرحلة تمدد النيوليبرالية إلى كل بقعة من بقاع الأرض، بعد انهيار الاتحاد السوفييتي. أما ما تقوله هي عن نفسها، فهو أن تأسيسها هدف لإقامة علاقات تجارية عادلة، أهم أسسها عدم التمييز الجمركي بين الدول الأعضاء وأن تكون التخفيضات الجمركية متبادلة. فمثلاً: لو كانت سورية عضواً في المنظمة، فالجمارك على تصدير الملابس القطنية إلى أوروبا وبالعكس ستكون متساوية بغض النظر عن تكاليف الإنتاج غير المتكافئة، أو دعم الدولة لمعظم قطاعات الإنتاج في أوروبا، فحسب قواعدهم، الأقوى اقتصادياً يكسب في السوق. اليوم تحتج بعض الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية على إجراءات ترامب، بوصفها تجاوز للقواعد، وإجبار على التفاوض بالقوة.

جوهر هذه المنظمات

تتحالف رؤوس الأموال على مستوى العالم في أشكال مختلفة لتنظيم مصالحها. هذه التحالفات الاحتكارية الدولية تسعى لتقسيم وإعادة تقسيم العالم باستمرار بحسب لينين. في البداية تتشكل الاحتكارات على مستوى محلي، ثم تتشكل احتكارات عالمية بناء على اتفاقيات بين الاحتكارات الوطنية لتقسيم الأسواق العالمية، تحديد الأسعار الاحتكارية، توزيع مصادر الموارد الخام والقطاعات الاستثمارية. هذه التحالفات التي تسمى كارتيلات تحد من النشاط التجاري والاستثماري والمالي للجهات غير المنضمة إليها، مما يجعل المنافسة أمراً مستحيلاً.
يتحدث عالم الاقتصاد الروسي فالنتين كاتاسونوف عن الكارتيلات في شكلها العصري، فهي اليوم تتلطى خلف واجهات، مثل: مراكز الأبحاث والمعاهد العلمية، اتحادات رجال الأعمال، واللجان والمؤسسات المختلفة، ويرى كاتاسونوف بأن منظمة التجارة العالمية هي أحد هذه الكارتيلات العالمية. وعن أسباب الاضطرابات داخل الكارتيلات لإعادة ترتيب أوراقها يقول: «يشير لينين باستمرار إلى قانون تطور الدول الاقتصادي والسياسي غير المتكافئ في ظل الرأسمالية. ويقصد بهذا اللا تكافؤ التغير المستمر في ميزان القوى بين الدول الرأسمالية، وكذلك بين الشركات الكبرى في الأسواق المحلية والعالمية. هذا (التفاوت) يؤدي إلى عدم استقرار الكارتلات الدولية، حيث يتم إبرام العديد من اتفاقيات الكارتل لفترة زمنية معينة، ولكنها تنهار غالباً مع الزمن. بعض الشركات داخل الكارتلات تزداد قوة (بفضل دعم حكوماتها مثلاً)، بينما تضعف شركات أخرى. وهذا يغري بإعادة التفاوض على الاتفاقيات من قبل الشركات القوية». ما يفعله ترامب اليوم يبدو بالفعل حالة من إجبار قطاعات رؤوس الأموال جميعها بالقوة لإعادة التفاوض، في محاولة لتحسين موقع رأس المال الأمريكي داخل الاحتكارات الدولية المتنوعة في عالم متعدد الأقطاب يُعاد تشيكله.

يشعر المرء مؤخراً أن ثمة محاولة ممجوجة من الإعلام السائد لخلق نوع من الاصطفاف: مع الولايات المتحدة أم مع أوروبا؟ مع النظام القائم على القواعد أم ضده؟ في ثنائيات مألوفة تلغي من الوجود الاحتمالات الغنية كلها، التي ستأتي بها الشعوب لحل تحدياتها، والتي لا تخدم مصالح منظومة رأس المال بتياراته المختلفة، فالصراع الذي يجري تصويره على أنّه صراع بين «العالم القائم على القواعد» و«العالم القائم على القوة» هو في الحقيقة صراع على الهيمنة، فحتى مصطلح «العالم القائم على القواعد» لم يكن إلا أداة بيد دول المركز الرأسمالي في فرض قواعدها التي تجاوزت في كثير من الأحيان القانون الدولي، والضوابط التي تحدد العلاقة بين دول العالم كلها، وجرى استخدام هذه «القواعد» لترسيخ نمط محدد من تقسيم العمل على المستوى العالمي، بما يخدم المراكز الكبرى.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1216