الناتو يحارب الناتو؟ أم إننا بحاجة لأدوات قياس جديدة؟

الناتو يحارب الناتو؟ أم إننا بحاجة لأدوات قياس جديدة؟

نشأت خلال عقود مضت مجموعة من الهياكل والتحالفات الإقليمية والدولية، وخلال هذه المدة السابقة ظهرت أجيال من الناس والبنى السياسية، التي نشأت وتطورت في ظل حالة من السكون النسبي، وبدا شكل العالم الذي نعيش فيه أزلياً بنظر البعض، مع أن كتب التاريخ كانت تقول عكس ذلك تماماً.

الأمم المتحدة مثلاً، كانت تعبيراً عن ظرفٍ محدد تلا الحرب العالمية الثانية، ولم تكن هذه المؤسسة بشكلها الحالي موجودة قبل ذلك، لا بل إنها تحوّلت إلى رأس الهرم في حلقات كثيرة من المنظمات والمؤسسات الدولية. لكن ماذا لو تغيّرت الظروف التي أنتجت هذه المؤسسات؟ هذا السؤال البسيط يمكن طرحه بشكلٍ أوسع ليشمل كلَّ ما يحيط بنا، حتى العلاقات الدولية والتحالفات الإقليمية والدولية.
فيما يلي نستعرض بعضاً من الظواهر التي شهدتها المنطقة، وسببت إرباكاً للمحللين والعاملين في الشأن السياسي والإعلامي.

تركيا – الناتو

تعتبر تركيا من دول الناتو البارزة، وتحديداً إذا ما نظرنا إلى قوام قواتها البرية، فهي القوة الثانية من بعد الولايات المتحدة في هذا المجال، ويتألف الجيش التركي من حوالي 260 ألف جندي بالإضافة إلى قوات احتياط كبيرة، وكان لهذا الجيش أدوار بارزة في أفغانستان وكوسوفو والبلقان، بالإضافة إلى أن تركيا تستضيف قواعد أمريكية استراتيجية في المنطقة.
يشكّل ما سبق إطاراً منسجماً إلى حد كبير، وتصطف تركيا على أساسه ضمن الكتلة الغربية بشكلٍ واضح، لكن المشهد يبدو أعقد إذا علمنا أنها البلد الوحيد ضمن الحلف الغربي سيء الصيت، الذي يعتمد أنظمة دفاع جوي روسية متطورة، ونقصد S400 وهو ما يبدو للوهلة الأولى حالة سريالية غير مفهومة، وتحديداً كون روسيا خصمٌ تاريخي وتقليدي لحلف الناتو.

التوافق السعودي – الإيراني

المثال الثاني يرتبط بتطورات العلاقة الثنائية السعودية الإيرانية، فكانت تسودها حالة من التوتر، ولم تكن حالة عابرة، بل كانت حجر أساس في فهم الاصطفافات في الإقليم، وبدت الاختلافات بين الطرفين كبيرة إلى تلك الدرجة التي لا يمكن إغفالها، وإن كانت هناك قناعة شكلية بأن السياسة متغيرة، لم تبدُ هذه الجملة قادرة على التعبير عن طبيعة العلاقة بين القوتين الإقليميين، لكن ودون الكثير من الصخب، بدأ التقارب حتى وصلنا إلى إعلان استعادة العلاقات برعاية صينية.
الإعلام ونظراً لحجم الصدمة، ظلّ يشتغل بقوة العطالة، ويحاول تفسير ما جرى على أنّه مناورة، أو تقارب مؤقت سرعان ما سينتهي وتعود الأمور إلى سابق عهدها، لكننا اليوم وبعد مرور سنتين تقريباً نرى أن العلاقة تصبح أمتن، ونجحت حتى الآن في تجاوز اختبارات صعبة، تحديداً خلال حرب غزّة الأخيرة.
المشهد الإقليمي معقد لا يمكن تفسيره بنظرة أحادية، بل يحتاج قدراً كبيراً من «اللياقة الذهنية»، ففي البداية لا بد لنا أن نذكر أن هناك عوامل كبيرة ومؤثرة حصلت، وبدأنا نشهد ارتداداتها وانعكاساتها على مجمل القضايا التفصيلية، ونقصد تحديداً التراجع الأمريكي، وبالخصوص إسهام الولايات المتحدة بالإنتاج العالمي، فبعد أن كانت حصتها عقب الحرب العالمية الثانية تصل إلى 50% على المستوى العالمي بحسب المصادر الغربية، انخفضت اليوم إلى 24% من الإنتاج العالمي. ولتكون الصورة أوضح ينبغي التنبيه إلى أن الصين وحدها تسهم بـ 28% من هذا الإنتاج، حسب أقل الأرقام تواضعاً، وإذا ما أخذنا دور الدولار فقد انخفض أيضاً، إذ شكّل 80% من الاحتياطيات العالمية في سبعينيات القرن الماضي، وانخفضت حصته اليوم إلى 60%، وكذلك حصته من المعاملات التجارية انخفضت من 80% في الفترة نفسها لتصل إلى حدود 40%.
معنى ذلك أن المعادل العسكري والسياسي للقوة الاقتصادية الأمريكية في النصف الثاني من القرن الماضي تغيّر، ما يعني تغيّراً كبيراً في البنية السياسية العالمية، وهو ما بدأ يفسح المجال لتشكّل فضاء جديد قادر على ملء الفراغات الناشئة، وانتزاع مساحات إضافية.

كيف نفهم ما يجري؟

الناتو كان ثمرةً لفضاء سياسي انتهى، وينشأ مكانه فضاء جديد، لكن تعقيد المسألة يرتبط بكون مؤسسات وأحلاف، مثل: الناتو، كانت الشكل الذي تجلت به الظاهرة، ومع التطور السريع في مضمونها، سنشهد أيضاً تفسخاً للشكل السابق، ونشوء شكل جديد ملائم، على هذا الأساس فقط يمكننا أن نفهم مثلاً: كيف يمكن أن تكون تركيا في حلف الناتو، وتملك منظومات دفاع روسية، فوجود تركيا في قائمة دول الحلف كان تعبيراً عن الظرف السابق، أما تبدل شكل التحالفات، والتعاون تحديداً مع روسيا، فكان تعبيراً عن الشكل الجديد الناشئ الذي لم يصبح سائداً بعد، لا بل إن حلف الناتو يعمل اليوم بقوة العطالة، بينما انتهت مقومات وجوده، ونشهد اليوم تفسخه، حتى أن بعض التقارير في الأيام الماضية تحدثت عن «إمكانية أن يدافع الحلف عن غرينلاند بوجه الولايات المتحدة، إذا ما فكرت الأخيرة باستخدام القوة العسكرية للسيطرة على الجزيرة» لتكون الترجمة السطحية للجملة تثير الضحك: حلف الناتو سيدافع عن غرينلاند إذا ما فكر حلف الناتو بالهجوم عليها! بينما في الواقع معنى ذلك أنه لم يعد هناك إلا هيكل متهالك للحلف ينهار بشكلٍ متسارع.
وكذلك الأمر بالنسبة للمثال الآخر، فطبيعة العلاقات بين إيران والسعودية كانت ترتبط تحديداً بتأثير الولايات المتحدة، لا بل يمكن أن نذهب أبعد من ذلك، لنستنتج أن شكل السعودية من جهة وإيران من جهة أخرى كان نتيجة تفاعل محدد مع الولايات المتحدة من زوايا مختلفة، وما أن تغيّرت الأخيرة.. كان من البديهي أن تبدأ نتائج التفاعل الجديد بالظهور.
قد يتفق البعض أن دور الولايات المتحدة ينحسر، وهو ما لم يعد يحتاج حتى لإثبات، لكن يبقى السؤال الأهم حول ما سينتج عن هذا الانحسار! ما الذي يعنيه ذلك هنا في الشرق الأوسط؟ وهل الشرق الأوسط بالمعنى الاصطلاحي سيظل صالحاً للاستخدام؟ أم إننا نقترب من صياغة مصطلح جديد قادر على التعبير عن الواقع الجديد؟

يستحيل أن نفهم طبيعة علاقة تركيا بالناتو وروسيا، أو معنى استعادة العلاقات الإيرانية السعودية بوساطة صينية، أو غير ذلك من الظواهر المشابهة إلّا إذا نظرنا إلى المسألة بشكلٍ أعمق، وعلى هذا الأساس يمكننا القول: إن تركيا لم تكن تسعى للدخول في بازار مع الغرب، ولم تكن استعادة العلاقات بين طهران والرياض مجرد مناورة، بل إن ما سبق هو تعبير عن اتجاه موضوعي له أسبابه العميقة، ويحتاج إلى إعادة فهم شاملة لكل ما يدور حولنا، في الإقليم والعالم، وعلى هذا الأساس لا يمكن لنا أن نستخدم أدوات القياس السابقة لفهم ما يجري اليوم، وإلا سنجد أنفسنا غارقين في بحر من التناقضات، لن يكون بالإمكان تفسيرها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1214