مؤتمر ميونيخ للأمن: أحد فصول الصراع الإمبريالي البيني
ديما النجار ديما النجار

مؤتمر ميونيخ للأمن: أحد فصول الصراع الإمبريالي البيني

عقد مؤتمر ميونخ للأمن بين 14ـ 16 شباط 2025 في أجواء من الاحتقان على المستوى الدولي. ولئن كان التوتر قد ساد علاقة قطب الغرب السياسي بباقي دول العالم لعقود، نتيجة ابتزازه لها لفرض مصالح دوله الاقتصادية، إلا أن الحدث الأبرز اليوم، هو الصراع المحتدم داخل القطب الإمبريالي نفسه بين الولايات المتحدة الأمريكية ودول أوروبية. الأمر الذي ينبئ باقترابٍ محتمل لنهاية حلف شمال الأطلسي.

في هذا السياق صدرت دراسة عن «مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية» الأمريكي في 14 شباط الحالي، حول الصراعات القادمة بين طرفي الأطلسي وإمكانية «صفقة كبرى» بينهما. يؤكد التقرير: أن الولايات المتحدة الأمريكية ـ حتى ما قبل ترامب ـ ترى أن أوروبا ثانوية في سياساتها الخارجية، فقد أصبحت أقل شأناً على الصعيد الدولي. وفي كلمته أمام مؤتمر الأمن قال نائب الرئيس الأمريكي جيه دي فانس: إن على أوروبا أن تكثف جهودها الدفاعية. وأنه في قلب الصراع الدولي اليوم، ستركز واشنطن أولويتها على آسيا، بينما على أوروبا أن تتحمل مسؤولية الأمن في القارة. تقول الدراسة آنفة الذكر: إن إدارة ترامب غير راغبة باستمرار التحالف بوضعه الحالي، وتشترط لاستمراره تقديم تنازلات مؤلمة في الملفات التالية: تمويل الناتو، والتوافق على مخرجات الاتفاق حول الهزيمة الإقليمية في أوكرانيا، والتنظيمات المتعلقة بالتكنولوجيا والتجارة، وتنظيمات المناخ المتعلقة بالضرائب على الصناعات المنتجة للكربون، والمنظمات الدولية والسياسات تجاه الصين.
ترى أوروبا في الأمريكي الضامن لأمنها، وتُشبه الدراسة الأمن الأوروبي برهينة بيد الأمريكي يفاوض عليها. مع ذلك يرى الاتحاد الأوروبي أن التنازلات ستجر تنازلات، ولا ضمان لتوقف الابتزاز. وبالفعل قام الأوروبيون بتقديم بعض التنازلات منذ أسبوعين، حيث ألغوا بعض التنظيمات التي تضبط عمل شركات التكنولوجيا والذكاء الصناعي، على أمل التقرب من إيلون ماسك دون فائدة. فالمطلوب تغييرات عميقة تعطي شركات التكنولوجيا أفضلية مطلقة في ثاني أكبر سوق لها، وليست مجرد تسهيلات.
إن الضغط الأمريكي ربما يضع مصير استمرار الاتحاد الأوروبي ككل على المحك. فدول الاتحاد الأوروبي لديها تناقضاتها البينية كذلك. فهي متفاوتة بحجمها الاقتصادي وتعاني جميعها من أزمات اقتصادية اجتماعية خانقة على مستوى الداخل. ولطالما كانت دول أطراف الاتحاد أقل حظاً في الفوائد من هذا التحالف الذي تسيطر عليه فرنسا وألمانيا.
تقول دراسة مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: إنه من غير المرجح أن تنجح دول الاتحاد الأوروبي في إبرام صفقة كبرى لحل مشكلاتها مع الولايات المتحدة. فدول الاتحاد تتخذ قراراتها فيما يتعلق بالدفاع والإنفاق عليه كل على حدة، بينما يجب أن تتخذ الإجراءات المتعلقة بالاقتصاد والتكنولوجيا (التي تطلب أمريكا تنازلات فيها) على مستوى الاتحاد الأوروبي. المعضلة، أن التناقضات ضمن الاتحاد كبيرة جداً، لذلك الحد الذي قد يؤدي لـ «بريكزت» جديد من فرنسا إلى ألمانيا ومن المجر إلى سلوفاكيا.
فيما يخص أوكرانيا، تنوه الدراسة، أن أوروبا تخشى أن اتفاق واشنطن مع روسيا سيتم بغض النظر عن وجهة نظرهم في حرب أنفقوا عليها الكثير، وخسروا أهم مصادر الطاقة والموارد الأولية، التي نهض اقتصادهم عبر تورديها من روسيا قبل الحدث الأوكراني.
وهناك مخاوف في أوروبا من سيناريو يشبه مؤتمر «يالطا الثاني»، الذي يعيد إلى الأذهان مؤتمر عام 1945 الذي تقاسمت فيه الولايات المتحدة وبريطانيا والاتحاد السوفييتي أوروبا بعد الهزيمة في الحرب العالمية الثانية، خاصة مع تكرار نائب ترامب لكلمة «هزيمة» في نقاشاته. يبدو أن على حلفاء أمريكا جميعهم أن يعلموا أن الولايات المتحدة تقطف ثمار النجاح بينما نتائج الهزيمة يحملها الحليف وحده! إذ تتوقع أمريكا من الاتحاد الأوروبي اليوم تحمل أعباء إعادة إعمار أوكرانيا.
يشكل هذا الصراع أحد فصول تبلور عالم اليوم متعدد الأقطاب. ذلك ما أقر به تقرير ميونخ للأمن الذي يسبق المؤتمر تمهيداً لانعقاده. فتقرير هذا العام 2025 كان بعنوان «تعدد الأقطاب» معترفاً بوضوح، بأن العالم أحادي القطب قد انتهى و«على الرغم من أن أقطاب العالم المتعددة لم تتبلور بشكل ناجز بعد، إلا أن تعدد القطبية دولياً حقيقة» ويلحظ التقرير أن «العالم يشهد استقطاباً متزايداً بين العديد من الدول وداخلها». ليس من المعتاد أن يلحظ معدو مثل هذه التقارير أسباب هذا الاستقطاب الذي يعكس اشتداد الأزمة الرأسمالية العالمية والصراع الطبقي على المستوى الدولي، وداخل كل دولة. وإذا كنا اليوم قد بتنا على مشارف تبلور عالم متعدد الأقطاب، فإن الاستقطاب الحاصل نتيجة تعاظم التناقضات الطبقية دولياً وعلى مستوى كل دولة، سيشتد، وسينعكس على المستويات جميعها، لتبلور العالم الجديد الذي سنشهد ولادته.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1214