قضايا الشرق .. قطار التاريخ السريع
للأحداث السياسية أوزان تسمح لنا بتمييز واحدة عن أخرى، فطوفان الأقصى كان واحداً من الأحداث التي تحوّلت من اللحظة الأولى إلى لبنة أساسية في حقبة قادمة، حين استيقظت المنطقة على نصر فلسطيني، كسر حواجز الحصار في غزّة، والأهم من ذلك أن أبطال فلسطين حملوا معهم قضيتهم من داخل غزّة إلى طاولة الحل، وأثبتوا أن قيام الدولة الفلسطينية قادمٌ لا محالة، وما شهدناه كلّه بعد ذلك كان محاولة أمريكية- صهيونية لتغيير ذلك، وهو ما لم ينجحوا فيه رغم كم الدمار الهائل الذي خلفوه وراءهم.
سعت الولايات المتحدة ومنذ الساعات الأولى في يوم 7 من أكتوبر 2023 أن تستغل اللحظة وتُسخن المنطقة أملاً في تفجيرها، لكن المحاولات لم تحقق هدفها الاستراتيجي، وأدخلت المعسكر الأمريكي المعادي في مأزق لم يكن من السهل الخروج منه دون خسائر باهظة، وبدلاً من أن تتكيف إدارة بايدن مع الواقع الجديد، استمرت في انتهاج السياسة ذاتها لشهور، واضطرت لذلك أن تدفع ضريبة أكبر، فوقفت في وجّه إجماع عالمي تاريخي مناصر للقضية الفلسطينية أولاً، ورافضاً للسلوك الأمريكي غير المسؤول ثانياً.
ولأن عجلة التاريخ لا يمكن إيقافها، اضطروا أخيراً للخضوع، فمخطط التفجير فشل وسدّت آفاقه، ما فتح المجال أمام أقطاب جديدة لتنتزع زمام المبادرة، وتسحب البساط من تحت أقدامهم، وبدأنا نشهد تساقط أحجار الدومينو في أوكرانيا وسورية، وما أن وصل ترامب إلى الرئاسة مجدداً حتى كانت الولايات المتحدة أمام استحقاقات جديدة لا يمكن تجاهلها، وكان لا بد من أن تُدفع ضريبة أخطاء سياسية استراتيجية.
ترامب في المقابل، ومع أولى تحركاته، يبدي لياقة عالية، ويتكيّف سريعاً مع الظرف الجديد، ولا يمكن الحديث أن الجعبة الأمريكية باتت خالية من محاولات جديدة، لكن ما يمكن رصده الآن هو استمرار بشكل أكبر وأوضح في نهجٍ ترامب السابق، الذي بُني في جوهره على فصل الجبهة الروسية عن الصينية، عبر استمالة روسيا والتركيز على الصين، والأهم من ذلك: هي المؤشرات على إعادة تموضع استراتيجي لم تكن متوقعة، وتحديداً عبر البحث عن عناصر قوة بعيداً عن المناطق الملتهبة في أوروبا والشرق الأوسط، وذلك عبر التلميح لنوايا لتثبيت الأقدام الأمريكية في منطقة غرينلاند الاستراتيجية، بين المتجمد الشمالي والمحيط الأطلسي، والحديث عن كندا نفسها، بالإضافة إلى السيطرة على قناة بنما مع ما تعنيه بالمعنى الاستراتيجي، أي أن هناك في الولايات المتحدة من يعيد النظر بكل الأداء السابق ويحاول توطيد الدعائم في المحيط القريب، واستثمار ثرواته وطاقاته الكامنة، وذلك استعداداً للمواجهة النهائية القادمة، وبالرغم من أن أفكار كهذه لا يمكن إلا النظر إليها بوصفها طرح استراتيجي من العيار الثقيل، إلا أنّها جاءت متأخرة لسنوات، قد لا تُنجز قبل وصول قطار التاريخ إلى محطته الجديدة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1211