فقدان الثقة بالحكومة الفرنسية... أزمة أعمق من مُجرد تصويت في البرلمان

فقدان الثقة بالحكومة الفرنسية... أزمة أعمق من مُجرد تصويت في البرلمان

في خطوة غير مسبوقة منذ عام 1962، أطاح البرلمان الفرنسي بحكومة ميشيل بارنييه بعد ثلاثة أشهر فقط من توليها السلطة. تصويت سحب الثقة الذي دعمته أطراف من اليسار واليمين المتطرف يعكس أبعاداً سياسية أعمق، تتجاوز مجرد أزمة حكومية.

حكومة بارنييه أصبحت الأقصر عمراً في تاريخ الجمهورية الخامسة، حيث صوت 331 نائباً لحجب الثقة من مجموع 577 نائباً. هذا التصويت يمثل ليس فقط فشلاً للحكومة، بل أيضاً حالة من الانقسام السياسي التي تعيشها فرنسا، حيث يعاني الرئيس إيمانويل ماكرون من غياب أغلبية برلمانية منذ الانتخابات الأخيرة التي جاءت بنتائج غير متوقعة.

أزمة حكم تتجاوز الحكومة

الأزمة في فرنسا ليست أزمة حكومة بقدر ما هي أزمة نظام سياسي. منذ إعادة انتخاب ماكرون، واجهت فرنسا برلماناً منقسماً لا يستطيع تشكيل أغلبية مستقرة، وهو ما يعكس تحولاً عميقاً في المشهد السياسي الفرنسي. التحالفات التقليدية التي كانت تحكم فرنسا لعقود باتت تتفكك، تاركة المجال لصعود قوى سياسية جديدة، سواء من اليسار بزعامة جان لوك ميلانشون، أو اليمين المتطرف بقيادة مارين لوبان.
ماكرون، الذي حاول تجاوز هذا المشهد السياسي عبر تشكيل حكومة وسطية بقيادة بارنييه، لم ينجح في تحقيق الاستقرار. على العكس، فقد زادت الأزمة تعقيداً مع تصاعد الدعوات لاستقالته، وإجراء انتخابات رئاسية مبكرة. لكن ماكرون، في محاولة لقطع الطريق على هذه المطالب، أكد أنه ملتزم بإنهاء ولايته «حتى اللحظة الأخيرة».

الأزمة السياسية: ظاهرة أوروبية شاملة

ما تعيشه فرنسا ليست حالة معزولة، بل هي جزء من أزمة أوسع تعصف بأوروبا. في ألمانيا، تعاني الحكومة الائتلافية من انهيار وتفكك، مما يعكس أزمة تحالفات سياسية عميقة. هذه الأزمات ليست مجرد شؤون داخلية، بل ترتبط بتراجع الدور الأوروبي على الساحة العالمية. العلاقة بين المركز الأوروبي والمركز الأمريكي أصبحت أكثر هشاشة، مع تراجع الهيمنة الاقتصادية والصناعية والثقافية لأوروبا، وتأثر دول الاتحاد الأوروبي بالحرب الروسية الأوكرانية، ودفعهم بالضد من مصالحهم الوطنية، خدمة للمصالح الأمريكية، كذلك تراجع وزنهم العالمي، وضعف نفوذهم في أفريقيا وباقي العالم.
يحاول ماكرون التمسك بمنصبه في ظل ضغوط متزايدة من المعارضة والشعب. في حين يراه البعض المسؤول الأول عن حالة الانقسام السياسي، يرى آخرون أنه يحاول إدارة أزمة لا يمكن لأي رئيس آخر تجنبها في ظل الظروف الحالية. ومع ذلك، يبدو أن الأزمة قد تتحول إلى أزمة مؤسساتية تهدد أسس الجمهورية الخامسة، ما لم يتم إيجاد حلول سياسية جذرية.

نحو مستقبل غامض

الأزمة الحالية في فرنسا تسلط الضوء على تحديات الحكم في الأنظمة الديمقراطية الأوروبية، حيث لم تعد الحكومات قادرة على تمثيل إرادة الشعوب في ظل تصاعد القوى الشعبوية، وقوى أخرى ذات طابع يساري. ومع تزايد الضغوط على ماكرون، يبقى السؤال: هل سيتمكن الرئيس الفرنسي من الصمود أمام هذه العاصفة السياسية؟ أم أن فرنسا ستشهد تحولًا سياسياً يُغير ملامحها للأعوام القادمة؟
هذا السؤال لا يخص فرنسا وحدها، بل يحمل في طياته إشارات إلى التحولات الكبرى التي تواجه أوروبا في عصر جديد من عدم الاستقرار السياسي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1204
آخر تعديل على الأربعاء, 11 كانون1/ديسمبر 2024 14:45