عن «كأس السمّ» الذي تقدّمه لنا ماكينة الدعاية السياسية!
تطرح حالة التصعيد المتواصلة جملةً من المسائل التي تشغل بال شعوب المنطقة، فالجميع اليوم، إلى هذه الدرجة أو تلك، يشعر أننا أمام تهديدٍ كبيرٍ وحقيقي، فكُرةُ اللهب تتدحرج ولا يظهر- إلى الآن- مخرجٌ واضحٌ من سلسلة الاعتداءات الصهيونية-الأمريكية، وحالة القلق العامة.
ترافق ذلك كلُّه- خلال الأسابيع القليلة الماضية- مع حملةٍ إعلاميةٍ تضليليةٍ غير مسبوقةٍ، تُقدّمُ ضِمنها أفكارٌ «يجب» أن تُقبل كما هي، وبلا نقاش! لكنها في الواقع تسقط أمام أبسط قواعد المنطق، ويمكننا إذا أردنا استعراض بعضاً مما يجري تسويقه وفرضه قسراً على عقول المتلقين، أن نحدّد فكرتين أساسيتين، ويكون لزاماً علينا تفكيكهما إذا ما أردنا حقاً تشخيص الواقع الحالي بشكلٍ دقيق.
«إسرائيل» خارجةٌ عن السيطرة!
مع كلِ تصعيدٍ أو جريمةٍ جديدة يرتكبها الكيان، يُسارع المسؤولون الأمريكيون تكرار الإعلان ذاته: «لم نكن على علم بذلك»! وتغزو الصحف أخبارٌ عن مكالماتٍ «ناريةٍ» مفترضة بين المسؤولين الأمريكيين ونظرائهم في الكيان، وعلى هذا الأساس «تقلق» واشنطن من تداعيات قرارات المسؤولين الصهاينة، لكن الحقيقة المثبتة تكمن في أنَّ الكيان لم يكن قادراً على تأمين مستلزمات أطول حرب في تاريخه، دون الدعم الأمريكي الشامل، الذي وصل حدّ انخراط الجيش الأمريكي بشكلٍ مباشر في صدّ عمليات إيران لضرب «إسرائيل».
في الحقيقة، ينبغي التمييز عند نقاش هذه المسألة بين خلفيات أصحابها والمناهج التي يتبعونها في تحليل وفهم العلاقة بين الطرفين «[إسرائيل] وأمريكا»، فللبعض مصلحة في فصل الطرفين عن بعضهما بهدف تبرير استمرار العلاقة بواشنطن، ولا يمكن ذلك إن أقرّوا بأنّها رأس الأفعى! فتقديم المسؤولين الأمريكيين أنفسهم بهذه الطريقة يسمح للولايات المتحدة ألاّ تتحمل بالضرورة ما ينتج عن عمليات جيش الاحتلال، وتحديداً في المجال الإعلامي والسياسي، والمثال الأكثر وضوحاً على ذلك، هو أنَّ واشنطن كانت ولا تزال الوسيط والراعي الأساسي لمفاوضات «وقف إطلاق النار في غزّة» وهذا يعني نظرياً أنّها طرفٌ محايد، وكان إعلانٌ من الإدارة الأمريكية عن مسؤوليتها في قيادة وتوجيه جيش الاحتلال، من شأنه أن يدفعها تلقائياً إلى مكانٍ آخرٍ في المعادلة يبدو أن وقته لم يحن بعد.
من جهةٍ أخرى يرى منظرون، وتحديداً بعض وجوه تيار الواقعية السياسية، أنَّ من يقود هذه الحرب فعلياً هو «إسرائيل»، على أساس أنّها قادرة عبر لوبي كبير ومنظّم أنّ توجّه القرار الأمريكي في الاتّجاه المطلوب «إسرائيلياً» وأنّ تفتح مخازن السلاح لتأخذ ما تشتهي منها، لكن وإن كان نشاط هذا اللوبي موجوداً فعلاً وله صيت ذائع، إلا أنَّ المسألة أكثر تعقيداً من ذلك، فلا يمكن القول: إن مئات السياسيين الأمريكيين ومن ضمنهم صناع القرار الحقيقيين في واشنطن قد جرى «تنويمهم مغناطيسياً» وينفذون أوامر «إسرائيل» دون وعي! بينما يمكننا إذا ما قاربنا المسألة من زاوية مختلفة، أن نصل إلى فهم أكثر عمقاً، فوجود «إسرائيل» كان هدفاً للصهيونية العالمية التي تعبّر منذ نشأتها عن مصالح رأس المال المالي، الذي يسيطر بدوره على الجزء الأكبر من السلطة في الولايات المتحدة، إن لم يكن كلّها، وتعمل هذه الفئة لتأمين مصالحها الطبقية، التي تجد تعبيرها في منطقتنا على شكل فوضى يؤججها الكيان، وعلى هذا الأساس يكون صحيحاً القول: إنَّ المغامرة «الإسرائيلية» تعرّضُ مصالح الولايات المتحدة للخطر، لكنّها في الواقع تنسجم كليّاً مع مصالح أصحاب القرار الحقيقين في واشنطن، الذين لا يعنيهم مكانهم الجغرافي، ولا يرون في تقسيم الولايات المتحدة خطراً وجودياً على مصالحهم.
«إيران هي الخَصْم الأساسي [لإسرائيل]»
لا شك، أن إيران تظهر بشكلٍ واضح طرفاً مقابلاً للكيان الصهيوني، ومن هنا يتسرّع بعض المحللين فيقدّمون سلسلةً من التحليلات، تتحول فيها دولُ المنطقة إلى «أضرارٍ جانبيةٍ» تَسقطُ فوقها صواريخ وقذائف المتخاصمين، ويأتي ذلك منسجماً إلى حدٍ بعيد مع المشروع الأمريكي، الهادف إلى تفتيت المنطقة وزرع العداوات بين دولها، وتقديم «إسرائيل» على أنّها «جزءٌ أصيلٌ» بل ويجب الاعتماد عليه في مواجه «مشروعٍ إيراني دخيل»!
جرى تسويق هذه الفكرة بالتحديد لأكثر من عقد، وفي حين لمّ يفهم البعض معناها في حينه، يبدو اليوم واضحاً، أنَّ قبولَ هذه الفكرة بالذات كان الأرضية الأساسية التي تقفُ عليها قوى سياسية مشبوهة، وتحرّضُ جمهورها ضد إيران بشكلٍ أساسيٍ، في مقابل انتقادات خافتة وخجولة لـ «إسرائيل» تنتقي مفرداتها بشكلٍ دقيق من البيانات الغربية الشكلية! فحالة الإجماع الشعبي الواسع على عداء «إسرائيل» وضرورة مقاومة المشروع الصهيوني باستخدام كل الوسائل المتاحة، كانت تتطلب «علاجاً أمريكياً مركباً» تُحيّدُ فيه هذه المسألة جانباً بشكلٍ مؤقت، وتوجّه واشنطن وتل أبيب سهامها ضد إيران تحديداً، ثم يتبع ذلك اتهام كل من يرفع السلاح ضد جيش الاحتلال بأنّه «أداة» بيد طِهران، وإنّ أيّ إنجازٍ تحققهُ أيّ مقاومة على الأرض، هو تقدّمٌ لإيران وليس خطوةً باتجاه حل القضية، وقيام الدولة الفلسطينية ذات السيادة وعاصمتها القدس.
إن نقاش هاتين الفكرتين بشكلٍ واعٍ، هو ممرٌ إجباريٌ لصياغة موقفٍ سياسيٍ صحيح، وهو ما يفتح مجالاً للخروج بأقل الخسائر من النار المشتعلة حولنا، القول بأنَّ الولايات المتحدة هي الرأس المدبر، يفرض على دول المنطقة إعادة صياغة العلاقة بها، وإعادة تصنيفها كطرف معادٍ لمصالح المنطقة، ودولها كلها، مع ما يعنيهِ ذلك من ضرورة وضع مهمة إخراج الولايات المتحدة من الشرق الأوسط على رأس سلّمِ الأولويات، إيران من هذه الزاوية بالتحديد قوة لا يمكن إغفالها لتحقيق هذا الهدف، لا شك أن تعاظم وزنها في الإقليم قد يقلق أطرافاً كثيرة أخرى، لكن استعادة الاستقرار المستدام وإنهاء المشروع الصهيوني، سيكون خطوة أولى لإعادة رسم التخوم والتوازنات بما يضمن مصالح دول الإقليم الأساسية، ويؤمن ضمناً مناخاً صحياً للدول الأخرى لتحقيق مصالحها الوطنية، عبر تعاون وتكامل الأطراف جميعها، بدلاً من تحويل الحدود السياسية إلى خنادق معدّة للقتال.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1196