قضايا الشرق ... تحديات بناء سياسية خارجية مستقلة!

قضايا الشرق ... تحديات بناء سياسية خارجية مستقلة!

لم يعد من الصعب إثبات أن الولايات المتحدة تتراجع، فهذا الموضوع يطرح في كثير من المقالات التحليلية الغربية، وعلى لسان عدد من الأكاديميين الجدّيين، وكذلك من قبل وجوه معروفة من السياسيين الغربيين أنفسهم، لكن ذلك لا يعني على الإطلاق أن أدوات الهيمنة الأمريكية لم تعد تفعل فعلها؛ فهي وإن كانت تعيش آخر أيامها إلّا أنّها ما تزال فاعلة بقوّة العطالة.

استطاعت الولايات المتحدة أن تتحكم بالسياسات الخارجية والداخلية لعدد من الدول، وإن كنا نشهد اليوم محاولات من دول منطقتنا لإعادة صياغة سياستها الخارجية بعيداً عن إملاءات واشنطن، فهي في سعيها هذا محكومة بعددٍ من الاعتبارات.
فبدايةً هيمنت الولايات المتحدة لعقود طويلة في ميادين مختلفة، من الاقتصاد والتقانة والعلوم إلى ميادين الثقافة وغيرها. وكان التخلص من هذه الهيمنة يحتاج في البداية إلى قاعدة مادية بديلة وهو ما استطاعت دول كبرى كروسيا والصين مثلاً قطع أشواط كبيرة في بنائها، وبات يمكن الحديث أن هناك بالفعل بدائل على المستوى العالمي، ليس بالنسبة للصين وروسيا داخلياُ فقط، بل وبالنسبة لكل دول العالم.
يحتاج ما سبق إلى إعادة صياغة للسياسة الداخلية في بلدان المنطقة، فلا يمكن اليوم صياغة سياسات خارجية مستقلة ما لم يتم القطع مع كل أدوات التحكم الغربي، ويمكن أن يكون تحصين بلداننا بوجه العقوبات الأمريكية مثالاً واضحاً على هذا.
ولذلك نشهد توجّهاً جنينياً في منطقتنا للتخلص من الدولار، وإيجاد قنوات بديلة للتبادل التجاري باستخدام العملات المحلية، أو عملات احتياطية متنوعة، والابتعاد عن كل المؤسسات والاتفاقيات التي رسخت هذا الشكل من التبادل التجاري، ما يعطي حرية أكبر للحركة بالنسبة للدول، ويزيد من قدرتها على المناورة.
المشكلة الأكبر الأخرى ترتبط بأن الولايات المتحدة استطاعت السيطرة على جزء كبير من الثروة المتراكمة في المنطقة، وحوّلتها إلى استثمارات داخل الولايات المتحدة، وهو ما أثبتت التطورات الأخيرة إمكانية استخدامها كسلاح ضد «المستثمرين» أنفسهم، إما عبر تجميد هذه الأصول أو مصادرتها، كما جرى مع الأصول الروسية الموجودة في المؤسسات الغربية.
مخاوف من هذا النوع تبدو حاضرة في الأذهان، وخصوصاً في دول الخليج التي تعمل على سحب استثماراتها وأموالها بشكل تدريجي ما يسمح بقرار سياسي أكثر استقلالية، وكذلك الأمر بالنسبة لاحتياطيات الذهب الموجودة في الخارج، والتي يبدو أن استردادها وزيادتها ضرورة لا يمكن القفز فوقها.
بالتالي، يمكننا القول: إن أي إجراءات من هذا النوع ما هي إلا استعداد للحظة قادمة من المواجهة، تستند إلى أساس مادي وتكنيكي يجري بناءه بالفعل، وإن كانت دراسة هذه الإجراءات والسرعة التي تتم بها مسألة مهمة، إلا أنّها لا تلغي الاستنتاج العام الذي يقول: إننا نشهد بالفعل خطوات ملموسة لتفتيت هذه الأدوات في منطقتنا والعالم، وكلُّ إنجازٍ جديد في هذا السياق سينعكس بوضوح في السياسات الخارجية لدول المنطقة، ويزيد من استقلالية قرارها استعداداً لساعة الصفر، ساعة إنهاء الهيمنة الأمريكية وأدواتها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1175
آخر تعديل على الإثنين, 20 أيار 2024 13:15