كاليدونيا الجديدة.. جولة أخرى بمواجهة المستعمر الفرنسي
تتعرض فرنسا لموجة ضغط خارجية جديدة بإحدى مناطق تواجد قواتها الاستعمارية ما خلف البحار، فبعد إفريقيا، تنتفض الآن جزيرة كاليدونيا الجديدة الواقعة شرقي استراليا وجنوب المحيط الهادئ، وهي واحدة من مجموعة جزر – أرخبيل - تسيطر عليها فرنسا في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.. ما خلفيات الحدث وما مستقبله؟
كاليدونيا الجديدة
وقعت كاليدونيا الجديدة والجزر الأخرى تحت الاستعمار الفرنسي بعد استكشافها غربياً منذ قرابة قرنين من الزمن حتى الآن، حيث تم ضمّهم في عام 1853، وأصبحوا إقليماً فرنسيا رسمياً في عام 1946.
منذ ذلك الحين، شهد الأرخبيل عموماً حركات معارضة واحتجاجاً وتمرداً، وصولاً لاتفاق «نوميا» في عام 1998 الذي ساعد على إنهاء الصراع عبر تحديد توجه لحكم ذاتي تدريجي، واقتصار التصويت بالانتخابات على شعب الكاناك، وهو الشعب الأصلي في الجزيرة، والمهاجرين الذي يعيشون فيها منذ ما قبل 1998. ويذكر أنه منذ عام 1986 أدرجت الجزيرة ضمن لائحة الأمم المتحدة للأراضي غير المستقلة، والتي يجب رفع الاستعمار عنها.
ديموغرافياً، تقدر الإحصاءات اليوم نسبة سكان الارخبيل الكاناك الأصليين بنسبة 41%، و24% من أصل أوروبي بأغلبية فرنسية.
وتعد جزيرة كاليدونيا الجديدة بالتحديد، ثالث أكبر منتج للنيكل في العالم، بنسبة 25% من إنتاج النيكل العالمي المعروف، وهو المعدن الضروري لصناعة بطاريات السيارات الكهربائية وغيرها من إنتاج مرتبط بالصناعات الثقيلة.
كما يعد الأرخبيل نقطة رئيسية لنفوذ فرنسي أمني وتجاري في منطقة المحيطين الهندي والهادئ، بحضور واضح لدور أمريكي من خلف فرنسا، وبالتعاون مع أستراليا، وبالضد من الصين ومصالحها الطبيعية وأمنها القومي في المنطقة.
كل ذلك يوضح بصورة أولية أهمية كاليدونيا الجديدة بالنسبة لفرنسا، واعتبارها نقطة خلاف رئيسية على المستوى الدولي، ومشكلة جدية بالنسبة للصين.
احتقان مستمر
منذ 1998، وإن هدأت حدة الصراع والمواجهات المباشرة في الجزيرة، إلا أن المؤشرات كافة كانت تدل على تزايد الاحتقان، ووجود توجه متزايد يهدف لطرد الفرنسيين، ومع التطورات الدولية الأخيرة خلال العقد الماضي، وتحديداً ما يتعلق بالوزن الفرنسي دولياً، الذي تعرض لضربات كبيرة في مستعمرات سابقة، كان من الواضح أن الجزيرة، وغيرها من المستعمرات الفرنسية، قد تقدم على أفعال تشبه ما جرى في مالي من رفض للوجود الفرنسي وصولاً لطرده.
شرارة الاحتجاجات
استناداً لذلك، عملت فرنسا، من العاصمة باريس، ودون العودة لرأي سكان كاليدونيا سواء الأصليون أو المهاجرون، على إجراء تعديل دستوري خاص بالإقليم، يتيح للوافدين الجدد منذ ما قبل 10 أعوام على الأقل، بالمشاركة في الانتخابات الإقليمية، أي أن الوافدين كافة ما بين 1998 و2014، 16 عاماً، بات بإمكانهم المشاركة في تقرير مصير الإقليم.
كان هذا القرار شرارةً لبدء موجة احتجاج واسعة في الإقليم، حيث شهدت مدن الجزيرة وعاصمتها نوميا يوم الثلاثاء 14 أيار الجاري، احتجاجات وتمرداً وشغباً شمل إغلاق طرقات وحرق مبانٍ وغيرها، ونشبت مواجهات مباشرة بين المحتجين وقوى الأمن أدت حتى الآن إلى مقتل 6 أشخاص، وإصابة 300، واعتقلت القوات الفرنسية أكثر من 200 محتج. وأعلنت السلطات المحلية أن الأضرار تقدر بـ 150 مليون يورو حتى الآن.
على الفور، أعلنت فرنسا حالة الطوارئ في الجزيرة، وفرضت حظر تجول فيها، نشرت عسكرييها الموجودين هناك والمقدر عددهم بـ 1700 جندي، وأعلنت عن إنشاء جسر جوي لتزويد الجزيرة بالضروريات، وقال رئيس الوزراء الفرنسي غابرييل أتال: «إن إرسال تعزيزات إضافية باستخدام جسر جوي سيعيد النظام ويضمن توريد المستلزمات الضرورية للجزيرة».
تلا ذلك إعلان أتال، أن بلاده سوف ترسل ألف جندي فرنسي إضافي إلى الجزيرة، قائلاً: إن الوضع «لا يزال متوتراً للغاية» وإن فرنسا «ستُظهر الحزم وستُخضع المحرضين على أعمال الشغب لأقسى العقوبات».
اتهامات لأذربيجان؟
تجاوز هذا الأمر حدود الجزيرة نفسها، واتهمت باريس عبر وزير داخليتها جيرالد دارمانين أذربيجان بالتدخل والوقوف خلف الأزمة الجارية في كاليدونيا الجديدة، قائلاً: إن هذا حقيقة وليس خيالاً، وتابع «يؤسفني أن بعض قادة المجموعات التي تدعو إلى استقلال كاليدونيا الجديدة قد أبرموا اتفاقات مع أذربيجان، لا شك في ذلك».
تستند الاتهامات الفرنسية إلى مجموعة من المؤشرات كان آخرها لقطات بثتها محطات التلفزيون الفرنسية يظهر فيها محتجون يرفعون علم أذربيجان، هذا بالإضافة إلى أن باكو استضافت في تموز 2023 مؤتمراً لما عرف باسم «مجموعة مبادرة باكو» التي تشكلت من قبل قوى سياسية مناهضة للاستعمار الفرنسي من أراضي المارتينيك الفرنسية وغويانا الفرنسية وكاليدونيا الجديدة وبولينيزيا الفرنسية.
ومن الجدير بالذكر، أن فرنسا كانت تلعب دوراً بدأ يتوضح منذ فترة في الصراع بين أرمينيا وأذربيجان، وقدمت دعماً بهدف توتير الأجواء بين البلدين، وكان ذلك بسياق دور غربي مشبوه في منطقة القوقاز، ما يمكن أن يكون سبباً بالنسبة لباكو في فتح خطوط من هذا النوع.
في الوقت ذاته، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأذربيجانية أيهان حاجي زاده: «نرفض تماماً الاتهامات التي لا أساس لها من الصحة لوزير الداخلية الفرنسي جيرارد ديرمانن ضد بلدنا، وكذلك تصريحاته حول العلاقات المزعومة بين أذربيجان وقادة حركة الاستقلال في كاليدونيا الجديدة [...] بدلا من اتهام أذربيجان بدعم الاحتجاجات المؤيدة للاستقلال في كاليدونيا الجديدة، كان على وزير الداخلية الفرنسي أن يوجه الانتباه إلى سياسة بلاده الفاشلة تجاه أقاليم ما وراء البحار، والتي تسببت في مثل هذه الاحتجاجات».
معركة أخرى في سياق حرب طويلة مع المستعمر
لأهمية كاليدونيا الجديدة اقتصادياً، وتحديداً ما يتعلق بالنيكل، ولوارداتها السياحية، ولاعتبارها نقطة نفوذ رئيسية للغربيين والولايات المتحدة في المنطقة، وليس فرنسا وحدها، فإن باريس ستفعل ما بوسعها لإعادة ضبط الأوضاع داخل الجزيرة، وللأسف، نظراً لموقعها وحجمها الجغرافي وحالتها الديمغرافية، فمن غير المتوقع أن تتطور الاحتجاجات بشكلها الحالي نحو الهدف المطلوب، وخصوصاً إنهاء الاستعمار عن الجزيرة والأرخبيل عموماً، ويبدو أن فرنسا قادرة حتى اللحظة على قمع الاحتجاجات واحتوائها وإن بشكلٍ مؤقت.
إلا أن أهمية ما يجري يكمن بوضعه في سياق تاريخي، كنقطة من نقاط معارضة وتمرد السكان الأصليين على الاستعمار الفرنسي، والإبقاء عليه وإحيائه، والتي ستحقق هدفها بعد توفر شروط موضوعية، إقليمية ودولية، داعمة أكثر.. وبهذا السياق، يُذكر أن الخارجية الروسية قد أصدرت تعليقاً عبر المتحدثة باسمها، ماريا زاخاروفا، تدعو به «باريس إلى الامتناع عن الاستخدام غير المبرر للعنف ضد المتظاهرين، لضمان احترام حقوق وحريات السكان الأصليين في كاليدونيا الجديدة وغيرها من أراضي ما وراء البحار الخاضعة لسيطرتها».
وينبغي الإشارة إلى أن أعمال العنف الجارية يمكن أن تشكل ذريعة بالنسبة لفرنسا لتدعيم تواجدها العسكري هناك، وهو ما بدأ بالفعل عبر إرسال جنود فرنسيين، ويمكن أن يكون هذا التواجد جزءاً من المساعي الأمريكي للتضيق على الصين أكثر، وجر دول غربية أخرى للتورط بهذا النشاط أكثر.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1175