من «باريس» إلى بلينكن أفكار قديمة بالية
هل يمكن للشعب الفلسطيني أن يرضى اليوم بالفتات الذي تضعه واشنطن على الطاولة؟ أم أن الطموحات أصبحت في مكانٍ آخر بعيد؟ السؤال الذي تبدو إجابته بسيطةً بالنسبة لشعوب المنطقة يراه بلينكن أُحْجِيَّة معقدة! هذه الهوة هي تماماً ما تجعل ضمان أي دور جدي للولايات المتحدة في رسم مستقبل الشرق الأوسط مسألة صعبة وبحظوظٍ منخفضة جداً.
يتحضر وزير الخارجية الأمريكي لبدء جولته الخامسة في منطقة الشرق الأوسط، على أن تبدأ يوم الأحد 4 شباط الجاري حتى يوم الخميس القادم، وأعلنت مصادر رسمية في الخارجية، أنّ أنتوني بلينكن ينوي زيارة الكيان الصهيوني والضفة والسعودية ومصر وقطر. وبحسب ادعاء المصادر ذاتها، تعد الزيارة «مواصلة للجهود الدبلوماسية لتحقيق اتفاق يضمن إطلاق سراح جميع الرهائن» و«تتضمن هدنة إنسانية تسمح بإيصال المساعدات الإنسانية»، هذا بالإضافة إلى أهداف أخرى تتعلق «بمنع انتشار الصراع» وبحث خطوات واشنطن «لتأمين الملاحة في البحر الأحمر».
لم تحمل تصريحات الخارجية أي معلومات جديدة، بل حتى إن أهداف زيارة بلينكن تبدو مشابهة للجولات الأربع السابقة التي تبدو من حيث الظاهر أنها «لم تحقق أيّاً من أهدافها».
اجتماع باريس
إن استباق زيارة وزير الخارجية عملية محفوفة بالمخاطر، ولا يمكن الجزم بما سيتمخض عنها، لكن واشنطن كانت طرفاً في اجتماع رباعي عقد في باريس منذ أيام، ضم إلى جانبها، مسؤولين من مصر وقطر والكيان الصهيوني، ما يمكن أن يُحمّل جولة بلينكن مهام محددة على أساس ما جرى تداوله هناك، وخصوصاً أن الحديث عن هدنة مرتقبة آخذ في الازدياد.
الوصول إلى هدنة وإن كانت مؤقتة أمرٌ ملح بلا شك، وخصوصاً مع الأوضاع الإنسانية التي فرضتها الحرب على الفلسطينيين في القطاع، لكن ذلك لا ينبغي أن يكون عائقاً في محاولة فهم طبيعة الاجتماع وهدف الولايات المتحدة و«إسرائيل» من حضوره، فالاجتماع أخذ صبغة أمنية واضحة بحضور وليام بيرنز، مدير الاستخبارات المركزية الأمريكية، بالإضافة إلى نظرائه من مصر والكيان، وبمشاركة رئيس الوزراء القطري ومسؤولين أمنيين وعسكريين آخرين، ويبدو أن صلاحيات المشاركين فيه لم تتجاوز نقاش قضايا تكنيكية دون الاقتراب من جوهر المشكلة، ومع أن مكتب بنيامين نتنياهو، وصف اللقاء بأنه «بنّاء» لكنه أكد في الوقت نفسه، أن هناك «فجوات ملموسة» يبدو أن المجتمعين لم يتمكنوا من حلّها، أو من القفز فوقها.
مع غياب أي إعلان رسمي عن مخرجات الاجتماع، نقلت الكثير من وسائل الإعلام أخباراً عن صحف أمريكية، مثل «نيويورك تايمز» تداولت فيها أنباء عن أن الاقتراح يقضي بوقف إطلاق نار مؤقت لمدة سبعة أسابيع تقوم «حماس» خلالها بإطلاق سراح جزء من الأسرى، ويبدو في مصادر أخرى أن الأسابيع السبعة هي مرحلة أولى يمكن أن تفتح الباب لهُدنٍ أطول!
وفي السياق ذاته، أعلن القيادي في حركة حماس، أسامة حمدان، أن الحركة تسلّمت بشكلٍ رسمي «مقترح الإطار العام الصادر عن اجتماع باريس الرباعي» مؤكداً، أن النقاش حول المقترح يجري بين قيادات الحركة، وهو ما جاء رداً على أنباء عن خلافات في المواقف بين قيادات الحركة حول المبادرة. حمدان لم يكتف بهذا الإعلان، إذ نوّه إلى أن النقاش هذا يستند إلى «رفع الحصار المستمر على القطاع منذ 17 عاماً، وتأمين إيواء النازحين وإعادة إعمار ما دمره الاحتلال، وإنجاز صفقة تبادل جدّية للأسرى، والإقرار الدولي العملي بحق شعبنا بتقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة، كاملة السيادة، وعاصمتها القدس».
بين «الأمني» و«السياسي»
تسعى واشنطن مع دول غربية أخرى لتقديم أنفسهم أطرافاً موثوقين في الملف الفلسطيني، وترتبط هذه الصحوة المفاجئة بمخاوف جدّية من خسارة دورهم الوسيط، وخصوصاً مع وجود نشاط روسي/ صيني صارم وهادئ. ولكن المشكلة تكمن في أن المحاولات هذه تظل قاصرة بشكلٍ كبير، إذ تبدو مخرجات «باريس» كما جرى عرضها بمثابة إجراءات مؤقتة لعلاج حالة مؤقتة، متجاهلين بذلك السياق الذي تطورت فيه الأحداث حتى وصلت إلى هذه النقطة، ويغيب عنها ذكر القضية السياسية وحق الفلسطينيين في دولتهم ومشروعية المطالب بإنهاء الاحتلال.
من جهة أخرى، تبدو المسألة قاصرة حتى في جانبها «التكنيكي» هذا، إذ ينبغي أن تنقل قطر المقترحات هذه إلى حماس لقبولها أو رفضها، متجاهلين أن المنطق الأمريكي في علاج المسألة يصر على تصوير حماس طرفاً خاسراً، أو يضعهم في موقع مساوٍ لجيش الاحتلال، في الوقت الذي يغوص فيه هذا الأخير بأوحال الحرب التي بدأها، ولم يحقق إنجازات عسكرية ملموسة قابلة للبناء عليها، ما يضع «حماس» منطقياً في موقع تفاوضي يسمح لها بطرح وقفٍ دائم لإطلاق النار، لا مجرد هُدنٍ مؤقتة بتكاليف باهظة وشروط مذلّه.
إيقاف الحرب اليوم يعني انتصاراً لحماس ومأزقاً للولايات المتحدة والكيان، فالرهان كبير والخسائر باهظة، وبينما تنقل وسائل الإعلام الصهيونية أنباء تفيد بأن الفريق الأمني يتحضر للاستقالة بعد إعلانه عن تحمّل المسؤولية عمّا جرى في 7 تشرين الأول، تغيّب الحقيقة الأصعب عن الرأي العام، تلك التي تقول إن الأشهر الأربعة التي تلت «طوفان الأقصى» لم تكن كافية لضمان «رد اعتبار» حتى وإن كان شكلياً، فيتمسك نتنياهو ومن يمثلهم بالسقوف العالية ويرفضون الحديث عن أي سيناريوهات أخرى، في الوقت الذي يحاول فيه صنّاع القرار في واشنطن أن يحققوا تقّدماً ما في هذا الملف، يسمح لهم بالترويج لأفكار تنتمي لزمنٍ سابق كالحديث عن «دولة فلسطينية بشرط أن تكون منزوعة السلاح».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1160