حول «النتائج العرضية» للضربات الأمريكية والبريطانية في اليمن
طرح السلوك الأمريكي منذ بدء جيش الاحتلال الصهيوني حربه في غزة الكثير من التساؤلات، فالدعم الذي قدمته واشنطن لهذا العدوان وما رافقه من غطاء سياسي دولي سمح للكيان بالاستمرار في الحرب، لكن الفهم العميق للاستراتيجية الأمريكية أظهر احتمالات خطيرة لزيادة التوتر في هذه المنطقة الاستراتيجية، ومن هنا تكشف التطورات الأخيرة في اليمن فصلاً جديداً من «الخطة الأمريكية».
نفّذت القوات الأمريكية والبريطانية يوم الجمعة 12 كانون الثاني الجاري، ضربات جوية على مواقع عديدة خاضعة لسيطرة جماعة «أنصار الله» اليمنية، وسبق الخطوة محاولات أمريكية لحشد دعم دولي لتحالفٍ هزيل أعلنت عنه واشنطن باسم «حارس الازدهار» في شهر كانون الأول الماضي.
تفاصيل الضربة
أعلنت القيادة المركزية الأمريكية «سنتكوم» فجر الجمعة، عن توجيه ضربات أمريكية بريطانية مشتركة ضد أهداف في اليمن، استهدفت فيها أنظمة الرادار وأنظمة الدفاع الجوي، ومواقع التخزين ومنصات إطلاق طائرات الدرونز وغيرها، بحسب إعلان «سنتكوم».
وقال قائد القوات الجوية الأمريكية في الشرق الأوسط، أليكس جرينكويتش: إن القوات ضربت أكثر من 60 هدفاً في 16 موقعاً، استخدمت فيها «أكثر من 100 قنبلة دقيقة التوجيه من مختلف الأنواع».
من جانبه قال المتحدث باسم «أنصار الله» يحيى سريع: إن القوات المعادية شنّت 73 غارة، أسفرت عن مقتل 5 مقاتلين وإصابة 6 آخرين. وأكد سريع، أن الجماعة لن تتردد في «استهدافِ مصادر التهديد وكل الأهداف المعادية في البر والبحر دفاعاً عن اليمن وسيادته واستقلاله» محذراً من أن العدوان «لن يمر دون رد وعقاب» وكانت بعض المصادر قد أفادت بأن الجماعة وجّهت بالفعل ضربة صاروخية باتجاه السفن الأمريكية، وهو ما أكدته شركة «درياد غلوبال» المتخصصة بالأمن البحري.
ردود الفعل الدولية والإقليمية
أصدرت مجموعة من الدول بياناً لدعم الضربة، ووقعت عليه إلى جانب بريطانيا والولايات المتحدة كل من استراليا والبحرين وكندا وألمانيا وكوريا الجنوبية، وثلاث دول غيرها. لكن المواقف كانت مختلفة بشكلٍ كبير في المنطقة، وبعيداً عن فلك واشنطن، إذ أعلنت روسيا أن الضربة المشتركة تخالف القانون الدولي، واعتبرتها تحريفاً لقرار مجلس الأمن الأخير حول اليمن، إذ أشارت المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زخاروفا: إن «الضربات الجوية الأمريكية على اليمن هي مثال آخر على تحريف الأنجلوسكسونيين للقرارات الدولية». وتأكيداً لموقفها، دعت البعثة الروسية لدى الأمم المتحدة إلى عقد جلسة طارئة بعد الضربة الأمريكية. أما بكين فدعت الأطراف إلى ضبط النفس، وضمان أمن الملاحة واستقرار المنطقة. وكانت الدول العربية أعلنت ايضاً عن تخوفها من الخطوة المتهورة، إذ عبّرت الخارجية المصرية «عن قلقها البالغ على إثر تصاعد العمليات العسكرية في منطقة البحر الأحمر، والغارات الجوية التي تم توجيهها لعدد من المناطق داخل جمهورية اليمن» واعتبرت أن القاهرة نبّهت من هذه التطورات بالتحديد، إذ «حذّرت مراراً وتكراراً من مخاطر اتساع رقعة الصراع في المنطقة نتيجة استمرار الاعتداءات الإسرائيلية في قطاع غزة، مؤكدة على حتمية الإيقاف الشامل لإطلاق النار وإنهاء الحرب القائمة ضد المدنيين الفلسطينيين، لتجنيب المنطقة المزيد من عوامل عدم الاستقرار والصراعات والتهديد للسلم والأمن الدوليين». الموقف في الرياض لم يختلف كثيراً، فقد قال بيان الخارجية السعودية: «إن المملكة تتابع بقلق» التطورات الأخيرة، ودعت إلى ضبط النفس «وتجنب التصعيد في ظل ما تشهده المنطقة من أحداث». كما أبدت مجموعة من دول الإقليم تخوفات مشابهة، ولم تؤيد الضربات الأمريكية، كان أبرزها: إيران والإمارات العربية وتركيا والجزائر وسلطنة عمان وغيرها.
الضربة «أوهام» أم شيءٌ آخر؟
إذا ما أردنا فهم الخطوة الأميركية بشكلٍ جدي، ينبغي لنا أن نقر بأن توجيه ضربات عسكرية إلى الأهداف اليمنية، لا يمكن أن يُعوّل عليه في وضع حد للتحركات الحوثية الأخيرة في مضيق باب المندب، فكل الهجمات التي شنتها «أنصار الله» استخدمت فيها أسلحة بسيطة وزوارق صغيرة الحجم، ولا يمكن من خلال توجيه ضربات جوية محدودة أن تغير الكثير في المعادلة، والأهم من ذلك، أن «الحل العسكري» للتعامل مع الملف اليمني أثبت فشله بعد عقد من الزمن، جرّبت أثناءه دول متعددة استخدام أحدث الأسلحة، وقصفت اليمن بحراً وجواً، حتى أن دولاً عربية تورطت في حربٍ برية ذات تكاليف باهظة، قبل أن يقر الجميع في العلن أن الحل السياسي هو الطريق الوحيد. ومن هنا وجّهت الكثير من الانتقادات إلى الإدارة الأمريكية، خاصة أن الرئيس جو بايدن لجأ لتوجيه الضربات دون الرجوع إلى الكونغرس، بل اكتفى بإخطاره بعد تنفيذها، معتبراً أنها «تمت لردع وتقليل القدرة الحوثية على تنفيذ هجمات مستقبلية».
يتطور النقاش داخل الولايات المتحدة منذ الإعلان عن تنفيذ الضربة، ويركز في مستواه الأول على «الجدوى» منها، والتشكيك في مدى تأثيرها على القدرات الحوثية، لكن المثير للانتباه، أن بعض الأصوات رأت أن التورط الأمريكي يمكن أن يعقد الوضع أكثر، وهو ما ذهبت له إحدى الباحثات في مؤسسة «رند- RAND» الأمريكية، إذ أشارت الكسندرا ستارك إلى أن الطريق لتذليل التحديات الأمنية والعسكرية في مضيق باب المندب يمكن أن يكون مجدياً أكثر إذا رافقه مسار دبلوماسي يهدف إلى «سلام مستدام في اليمن» لكن المثير للانتباه فيما قالته ستارك، هو أن الضربات هذه من شأنها أن «تشعل الحرب الداخلية في اليمن مجدداً»، وهذا تحديداً ما ينبغي التوقف عنده.
الظرف اليمني الحساس
أعلنت حكومة اليمن- المعترف بها دولياً- موقفاً مركباً من الأحداث، واعتبرت أن الضربات جاءت نتيجة لـ «استمرار الميليشيات الحوثية في استهداف وتهديد أمن وسلامة الملاحة الدولية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب» معتبرةً أن سلوك «أنصار الله» يهدد مصالح الشعب اليمني، واعتبرت الحكومة في بيانٍ صادر يوم الجمعة الماضي، أنها «صاحبة الحق السيادي في تعزيز أمن وسلامة البحر الأحمر وما يتبعه من استقرار للمنطقة والعالم، وأن الطريق الأمثل على هذا الصعيد لا يمكن أن يتحقق إلا باستعادة مؤسسات الدولة الشرعية». هذه التطورات والتصريحات يمكن أن تتحول في ظل الظرف الحالي، إلى عامل ضغط جديد على الملف اليمني، بعد أن كان قد شهد في الفترة الماضية انفراجات وتقدمات رد بعضها إلى التفاهم السعودي-الإيراني. وكان المبعوث الدولي إلى اليمن، هانس غرونبرغ، قال في بيانٍ له: إن زعزعة الأمن الإقليمي سيكون له أثرٌ سلبي على «جهود السلام في اليمن والمنطقة».
ما سبق، يمكن أن يقدم صورة واضحة عن طبيعة الأهداف الأمريكية من العملية الأخيرة، إذ يبدو أن تأجيج الأوضاع الداخلية في اليمن- وربما محاولة دفعه إلى الحرب من جديد- ليس مجرد «ضرر جانبي للعملية العسكرية» بل ربما يكون هدفها الأساسي، وإذا كنا قدمنا على صفحات «قاسيون» الكثير من الدلائل على المحاولات الأمريكية لتفجير الأوضاع في المنطقة، عبر الضغط على مصر والسعودية، فتكون ضربات كهذه خطوة مدروسة في هذا السياق، فهي قادرة على زيادة درجة الاضطراب في الملاحة ضمن البحر الأحمر، وما يعنيه ذلك من انخفاض في موارد مصر الأساسية، لكنه وفي ظل التطور الأخير بات تهديداً جديداً على الحدود السعودية، التي لن تكون قادرة على تجنب تأثيرات اندلاع الصراع مجدداً، وهي التي دفعت سابقاً ثمناً باهظاً لتورطها هناك. اليمن يمكن أن يكون جزءاً إضافياً في مشهد مشتعل في السودان وفلسطين، واستمرار التصعيد في هذه الملفات وغيرها في لبنان والعراق وسورية وربما قريباً في الصومال سيكون بمثابة حريق كبير يهدد الأمن الوطني لدول، مثل: السعودية ومصر التي حافظت حتى الآن على مستوى ما من الاستقرار السياسي والاقتصادي، وهو ما تسعى واشنطن لتقويضه في سلوكها في الشرق الأوسط وإفريقيا.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1157