جبهة في مواجهة واشنطن.. تتسع وتعمّق روابطها

جبهة في مواجهة واشنطن.. تتسع وتعمّق روابطها

تحتل الحرب الدائرة في فلسطين وما يرافقها في المنطقة، المرتبة الأولى من حيث الاهتمام على المستويات كافة، السياسية، والشعبية والإعلامية. ورغم كمية الخسائر في أرواح المدنيين والتدمير الكبير للبنى التحتية داخل قطاع غزة، تظل طريقة حساب النتائج السياسية مختلفة، وهذا ما يمكننا الوقوف عند بعض جوانبها هنا.

إذا انطلقنا من توصيف اللحظة الراهنة لا يمكن القول إن الحرب الحالية كانت تطوراً مفاجئاً، بل على العكس، فهي تطور طبيعي لما يجري في الأراضي المحتلة منذ عقود، وتحديداً مع الحصار المفروض على القطاع، والسعي الصهيوني المعلن للالتفاف على القرارات الدولية، والعمل الحثيث لفرض سياسة الأمر الواقع. وعند النظر إلى الساحة الإقليمية الأوسع، تبدو الحرب أيضاً بوصفها تطوراً طبيعياً في السياسة الأمريكية التي عملت على رفع درجة التوتر بشكلٍ مستمر، وإشعال أكبر عدد ممكن من الحرائق. لكن كون ما يجري أمراً متوقعاً لا يعني أن يكون بلا نتائج أو ارتدادات، وهذا ما يمكن رصده على مستويين مختلفين، الأول: مرتبط بالكيان الصهيوني والولايات المتحدة. والثاني: على مستوى الدول المستهدفة في مشروع الفوضى تلك، التي تجري هذه الأحداث في محيطها الحيوي.

الانقسامات تشتد

أصبح من الثابت القول: إن أي مغامرات من هذا النمط في لحظات حساسة كهذه، تكون لها ارتدادات قاسية على واشنطن والكيان على حدٍ سواء، فقبل 7 أكتوبر كان الانقسام يبدو واضحاً في الملفات كافة، واشتد أكثر مع التطورات الأخيرة، ففي داخل الكيان ظن البعض أن الحرب يمكن أن توحد الجبهة الداخلية المنقسمة، وكان الإعلان عن حكومة طوارئ مؤشرٌ على توافق بين قوى متناقضة، وتهدئة للقوى المتصارعة داخل التيار الواحد، لكن الإطار الشكلي هذا لم يكن كافياً للتغطية على الصراع الجاري، فالحكومة ضمت بنيامين نتنياهو وبيني غانتس ووزير الدفاع يوآف غالانت، وأعلن حزب غانتس في حينه أنها ستكون «حكومة حرب» ولن تبت بأي قضايا أو قوانين غير تلك المرتبطة بها. لكن هذا الهدف المحدد «الحرب» أصبح بحد ذاته موضوعاً للانقسام الذي وصل حتى إلى الداخل، فإن كان السياسيون داخل الكيان قد أعلنوا أن «أمن الكيان بخطر» ولذلك لا وقت للخلافات، فهم تجاهلوا بذلك أن «أمن الكيان» و«مستقبله» هو موضوع الخلاف الأساسي، وكان من البديهي أن تشهد حكومة من هذا النوع صدامات حادة، خصوصاً مع طول مدة القتال، وغياب التقدير عن وقت انتهائها، وبالرغم من كون أعضاء الحكومة يبذلون جهداً لإخفاء هذا النوع من المشاكل عن الرأي العام، إلا أن التسريبات بدأت تنتشر بشكل واسع في الصحافة، ويبدو ما يجري تداوله منطقياً حتى حين، يتم إنكاره رسمياً، وكان آخر ما نشر في هذا الخصوص، فصل جديد من الصراع الدائر بين عضوي حزب الليكود نتنياهو وغالانت؛ إذ وفقاً لمصادر رسمية، أصدر رئيس الوزراء تعليمات إلى رئيس الموساد ورئيس الشاباك بمنع عقد اجتماعات منفردة مع وزير الدفاع بدون حضوره شخصياً، بعد أن عقد الأخير لقاءات منفردة «بخصوص الرهائن» مع مسؤولين أمنيين، تحديداً بعد أن بدا أن خلافات حادة ظهرت حول صفقة تبادل الأسرى، التي رأت فيها كثير من القوى ضرراً بمصلحة الكيان. ثم نقلت الصحف خبراً جديداً مفاده: أن نتنياهو رفض حضور المسؤولين الأمنيين اجتماعاً حساساً جمعه مع غالانت ورئيس الأركان هرتسي هاليفي.
محاولات احتواء هذا النوع من الصراعات ستكون محكومة بالفشل، وخصوصاً أن الكيان بات يعاني أكثر فأكثر من خسائر كبيرة تجاوزت حسب اعترافاته مقتل 500 جندي وضابط، بالإضافة إلى خسائر اقتصادية بسبب النفقات الحربية، والتعطل الكبير في التجارة والاقتصاد، ما يعني أن المشاكل ستتفاقم أكثر، ولن تكون «حكومة الحرب» المهتزة قادرة على التعامل مع هذه الملفات الشائكة، ما يعني انفتاحاً مرجّحاً للصراع القديم- الجديد حول الحكومة وتشكيلها وصلاحياتها.

ماذا عن واشنطن؟

الانقسام الحاصل داخل الكيان يمكن وصفه بأنه امتداد لانقسام حاد داخل دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، وبين صفوف سياسييها، إذ كان هناك إعلانٌ رسمي منذ أسابيع عن وجود خلافات داخل الخارجية الأمريكية، وتحديداً حول طريقة إدارة واشنطن للحرب الدائرة في الشرق الأوسط، كان هذا الاعتراف بمثابة مؤشر على صعوبة إخفاء حجم المشكلة التي لا تشمل الخارجية فحسب، بل تبدو مشتدة يوماً بعد آخر، وتحديداً مع الارتفاع المتسارع في فاتورة الدعم المادي والعسكري، إذ أشارت صحيفة يديعوت أحرونوت إلى أن واشنطن أرسلت «أكثر من 230 طائرة شحن و20 سفينة محملة بالأسلحة إلى إسرائيل منذ بدء الحرب». مشكلة واشنطن لا يمكن حصرها بالنفقات أو توريدات الأسلحة برغم أهميتها، فالرهان الأمريكي كبير، وفشل هذه المحاولة سيكون له ارتدادات قد لا يمكن التعامل معها بسهولة لاحقاً، فإن كان الوضع الأمريكي حرجاً في المنطقة، وخصوصاً في ظل الاضطرابات المستمرة، التي تشهدها العلاقات الأمريكية مع معظم دول المنطقة، فستكون نتائج الفترة القادمة أقسى وأشد وطأة.

في الجبهة المقابلة

إذا كانت السمة العامة في داخل الكيان وواشنطن هي توسع الخلافات والانقسامات، فالوضع في الجبهة المقابلة مختلف، إذ يبدو أن الظرف الدقيق الذي يشهده الإقليم يُسرّع جملة من القضايا التي بدأت منذ سنوات، لكنها لم تستكمل بعد، المسألة الأولى هي: علاقات دول المنطقة مع الولايات المتحدة، التي كان الحفاظ عليها وتطويرها هدفاً في وقتٍ سابق، بدأت تتلقى الضربات اليوم، وأصبح الداعمون لهذه العلاقات في مواقف صعبة داخل بلدانهم، وخصوصاً أن واشنطن بدعمها للكيان في هذه الحرب، وتجاهل كل مطالبات دول المنطقة بوقفها، وضعت نفسها بوصفها راعٍ رسمي ومعلن لما يهدد الأمن الوطني لتلك الدول، بالتالي فرضت السياسة الأمريكية حتى على حلفائها السابقين اتخاذ إجراءات جوابية، فأصبح الدفاع عن العلاقات معها صعباً، بالنسبة لمصر مثلاً، وبعد اتضاح استعداد واشنطن لإلحاق الضرر بالمصالح الحيوية للقاهرة، كإعاقة الملاحة في البحر الأحمر، أو الضغط عليها لقبول تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، كل ذلك فرض على مصر التحرك، وهو ما يفسر التسارع الحالي لاستعادة العلاقات بين مصر وإيران، بعد سعي واشنطن لتدميرها منذ سنوات. إذ أعلنت سلطنة عمان مؤخراً نيتها استضافة مباحثات مصرية إيرانية، ويبدو أن البلدين أبديا استعداداً لعقد هذه اللقاءات، التي ستكون لقاءات شكلية، إذ يتضح أن الاتفاق على استعادة العلاقات قد اتخذ بالفعل، فقد أعلن عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، السفير رخا أحمد حسن، أن تبادل السفراء لم يعد مسألة بعيدة. عليه قد يتحول اللقاء في سلطنة عمان- إن حدث- إلى تتويج لهذه المساعي أكثر من كونه وساطة.

واشنطن ليست جديرة بالثقة

مع كل مفصل جديد، تبرهن الولايات المتحدة أنها بسياستها هذه تشكّل أكبر تهديد للمنطقة، وإن لم تعلن بعد الدول العربية الأساسية ذلك صراحة، فإن سياساتها باتت تؤشر على استجابة متأخرة لهذا الخطر، وربما تكون جلسة مجلس الأمن الأخيرة، وتصريحات المندوب الروسي فاسيلي نيبينزيا فيها أداة جديدة لفرز الأدوار الدولية في المنطقة، بين تيار واشنطن الذي مرر صياغة مبهمة جديدة في متن القرار تطالب بـ «تهيئة الظروف لوقف مستدام للأعمال العدائية» وبين موقف القوى الأخرى كروسيا، التي اعتبرت أن واشنطن تحاول من خلال هذه الجملة منح جيش الاحتلال «رخصة لقتل المدنيين الفلسطينيين». موقف نيبينزيا هذا يرفع مستوى الثقة بالدور الروسي، ويضع دول المنطقة أمام استحقاق جدي، في مناخ مُؤاتٍ للدفاع عن مصالحها أمام كل ما يهددها من قبل واشنطن و»إسرائيل» ووكلائهما.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1155