الأرجنتين وتحديات كبيرة مقبلة

تعاني الأرجنتين من أزمة اقتصادية حادة، حيث وصل التضخم في البلاد إلى 142% خلال شهر تشرين الأول، وارتفع الدَّين، وتنخفض قيمة العملة الوطنية البيزو باستمرار، بينما تتضاءل قيمة الأجور الفعلية للسكان وتنخفض قيمتها الشرائية، وتتزايد نسب البطالة بشكل ثابت، وغيرها من المشكلات الاقتصادية التي تعكس بمجموعها أزمة عميقة داخل البلاد.

برنامج ميلي

من هذا الواقع، وصل خافيير ميلي من الحزب الليبرالي الأرجنتيني إلى رئاسة البلاد، ببرنامج سياسي واقتصادي متطرف للغاية، يدعو فيه إلى دولرة الاقتصاد عبر تعويم وإلغاء عملة البيزو واعتماد الدولار، وإلغاء البنك المركزي الأرجنتيني، وخصخصة ما أمكن من القطاع العام بما فيه التعليم والرعاية الصحية، وفي هذا السياق صرّح ميلي أن من بين المؤسسات العامة التي سيعمل على خصخصتها شركة النفط الوطنية «واي بي إف» ووسيلتي إعلام حكوميتين، كوكالة «تيلي آم» وقناة «بي في بي»، وخفض الإنفاق العام بنسبة 15%، وإنهاء العمل بالدعم بالعديد من المجالات، منها: الطاقة والنقل، وتحرير الأسعار، وإلغاء الضرائب على الصادرات، ووعد ميلي بالسيطرة على التضخم في فترة ما بين 18 و24 شهراً، ويعتبر ميلي أن حل أزمة البلاد هو ما وصفه بـ «العلاج بالصدمة».
وعلى المستوى السياسي، أعلن ميلي مواقفه المعادية لروسيا والصين وإيران والبرازيل والفلسطينيين بشكلٍ واضح، ودعمه للولايات المتحدة وأوكرانيا والكيان الصهيوني، فقد صرّح حول الأخير، مثلاً «إنني أعتبر إسرائيل حليفاً لدرجة أنني قلت سأقوم بنقل السفارة من تل أبيب إلى القدس، تماما كما فعل الرئيس الأمريكي السابق ترامب» ووصف روسيا بـ «الدولة الاستبدادية» معلناً، أن بلاده لا تنوي العمل مع روسيا، بينما صرحت المرشحة لوزارة الخارجية الأرجنينية ديانا موندينو «سنتوقف عن التعامل مع حكومتي البرازيل والصين» اللتان تعدان الشريكتان التجاريتان الأهم، وقد وصف ميلي الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا في وقت سابق بالـ «فاسد».

الأصداء الدولية

على المستوى الدبلوماسي، رحبت وهنأت معظم الدول ميلي بفوزه في الانتخابات الأرجنتينية، بما فيها البرازيل، بينما قام وزير ورئيس إدارة العلاقات العامة البرازيلية باولو بيمينتا بمطالبة ميلي الاعتذار عن تصريحاته الأخيرة حول دا سيلفا، وقال بيمينتا: «سأتصل به بعد أن يعتذر لي فقط. لقد أهان الرئيس لولا بشكل غير مبرر. كرئيس منتخب، عليه أن يتصل ويعتذر. وبعد ذلك، سأفكر في إمكانية الحديث»
أبدى الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو قلقه من وصول من وصفهم بـ «نازيين جدد يقودهم متطرف ذو ميول استعمارية» إلى الحكم في الأرجنتين. وقال: «كما تنبأت إحصاءات الاستطلاعات، فاز في الأرجنتين يمينيون متطرفون ونازيون جدد. وهؤلاء هم يمينيون متطرفون يقترحون مشروعاً استعمارياً على الأرجنتين، ويعتزمون قيادة مشروع استعماري في أمريكا اللاتينية ومنطقة الكاريبي بأسرها» معتبراً إياه بالـ «تهديد الكبير» وأن تيار ميلي خاضع للأمريكيين، وقال: «يريدون فرض مشروع ليبرالي جديد متطرف... مثلما تم فرضه في السبعينات من خلال انقلاب بينوشيه في تشيلي وفيديلا في الأرجنتين والانقلاب في أوروغواي»، وكان الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو قد أعلن عن «خيبة أمله» جراء فوز ميلي بالانتخابات الأرجنتينية، كما تعكس مواقف البرازيل وكولومبيا وفنزويلا وكوبا وغيرها من الدول حالة استياء طاغية في أمريكا اللاتينية.
من روسيا، أكد الناطق باسم الكرملين ديميتري بيسكوف احترام موسكو لإرادة شعب الأرجنتين، واستعدادها لمواصلة تطوير العلاقات، واعتبر أن روسيا ستركز على تصريحات ميلي بعد تنصيبه في العاشر من الشهر المقبل، بينما قال نائب رئيس مجلس الاتحاد الروسي قسطنطين كوساتشيف: «طرح ميلي وعوداً انتخابية في غاية الراديكالية، وهذا لا يمكن إلا أن يكون مثيراً للقلق. ومع ذلك، فإن المسؤولية عن السلطة في كثير من الأحيان تقلل بشكل كبير من التطرف الذي يظهر خلال الحملة الانتخابية. لذلك سنحكم بالأفعال، وليس بالأقوال [...] أرغب وآمل بأن الرئيس المنتخب سيعمل لصالح جميع شعب الأرجنتين، ولن يركز فقط على شريحة تركز حصرياً على القيم الليبرالية المتطرفة [...] بات واضحاً أن زمن مثل هذه القيم في السياق العالمي أصبح شيئاً من الماضي، ولا ينتمي إلى مستقبل البشرية» وتابع أن «مستقبل البشرية يكمن في التعددية القطبية، ولا ينبغي للأرجنتين أن تنزلق إلى العزلة الذاتية المتمثلة في أحادية القطبية».

إمكانية تنفيذ برنامج ميلي

تطبيق البرنامج المتطرف لميلي بعد تنصيبه رئيساً لا يرتبط بإرادة ميلي وتياره، بل سيكون خاضعاً لتوازنات القوى السياسية في الداخل والخارج، ولا يمكن تقديم تقدير دقيق للمشهد السياسي الداخلي بعد، لكن ما يبدو واضحاً أن خيارات الأرجنتين لن تكون مفتوحة، وسيكون ميلي وغيره مضطرين للتعامل مع هذه التوازنات، فحتى لو استطاع ميلي تطبيق بعض مفردات برنامجه، سيكون المشهد معقداً، ولا يمكن التنبؤ بمآلات الأمور. لكن ما يمكن توقعه مستقبلاً، هو مضي الأرجنتين نحو حالة من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي بسبب هذه السياسات، والتي من الممكن أن تتحول إلى أزمة سياسية حقيقية.

«الشعبوية» ولوم الأرجنتينيين

يتفق العديد من المحللين على وصف ميلي بالـ «شعبوي» نظراً لطبيعة خطاباته وأحاديثه التي تبدو بعيدة عن أي خطاب سياسي متوازن، دون أي محاولة لإثبات الجدوى من اتباع سياسات كهذه. إذ اعتمد ميلي في خطابه، على دغدغة مشاعر الناخبين بوعوده الرنانة بحل الأزمات الاقتصادية والمعيشية، وحملهم على الإيمان به فقط، وبنفس الوقت يحمّل البعض الشعب الأرجنيتيني مسؤولية وصول ميلي إلى الرئاسة، معتبرين أن الانتخابات عبّرت بشكل «ديموقراطي» عن إرادة الأرجنتينيين، دون الأخذ بعين الاعتبار أن قرارات الناخبين تكون متأثرة بعدد كبير من العوامل، ولا تعني أن هؤلاء الناخبين يدركون مصالحهم العميقة فعلاً، ويكون هذا النوع من الخطاب مؤثراً، كونه أقرب إلى المحافظة، ويدعي قدرته على حل المشكلات التي عانى منها الأرجنتينيون بالفعل، وتلعب وسائل الإعلام دوراً كبيراً بالتأثير وصياغة الرأي العام حول مسألة معينة، ما يمكن أن يكون عاملاً حاسماً في خيارات الناخبين.