القضية الفلسطينية وأولويات «دول الجنوب»
لم ينخفض الاهتمام الشعبي أو السياسي أو الإعلامي المرافق للعدوان الذي تعرض له قطاع غزة، وعملية حماس التي سبقته، ولم يعد من المستغرب القول إن الحيثيات التي تطور فيها الملف الفلسطيني خلال الأسابيع القليلة الماضية كانت محط اهتمام جدي لكل دول المنطقة، وعدد من الدول المؤثرة في العالم، كون شكل حل هذا الملف بالتحديد سيلعب دوراً أساسياً في رسم مستقبل هذه المنطقة الإستراتيجية.
بعد ان أعلن جيش الاحتلال عن إطلاق عملية عسكرية قصف فيها قطاع غزة بشكل وحشي، واقتحمت قواته أجزاءً منه، مخلفةً آلافاً من الضحايا، غالبيتهم الساحقة من المدنيين، وبعد التهديد والوعيد ورفض أي هدنة أو وقف لإطلاق النار، اضطر الكيان إلى القبول بهدنة مؤقتة، بدأ سريانها من صباح يوم الجمعة ٢٣ من شهر تشرين الثاني الجاري.
الوصول إلى الاتفاق المؤقت لوقف إطلاق النار حمل معه جملة من القضايا السياسية، كان أبرزها أنه جاء معاكساً للرغبة الأمريكية والصهيونية التي عبّر عنا مسؤولون كبار بشكلٍ مستمر، كان آخرهم الرئيس الأمريكي جو بايدن في مقاله المنشور في «ذا واشنطن بوست»، لكن المقاومة الفلسطينية مدعومة بنشاط إقليمي ودولي، وبالرأي العام العالمي الكاسح، نجحت في الوصول إلى هذه الهدنة، وبالشروط التي فرضتها حماس، ما يعني بداية لحصد ثمار سياسية كبرى كنتيجة متوقعة للنجاح العسكري الذي حققه «طوفان الأقصى». الهدنة وبالرغم من العثرات المتوقعة، والتي رافقتها منذ البداية، إلا أنها تعتبر فرصة جيدة لبحث المشهد السياسي الإقليمي والدولي المرافقين لها.
«قمة الرياض» ومجموعة الاتصال
كان المجتمعون في الرياض لحضور أعمال «القمة المشتركة» قد قرروا إنشاء مجموعة اتصال لتعمل على تنفيذ مقررات القمة حول فلسطين، وضمت هذه المجموعة كلاً من السعودية وتركيا ومصر والأردن وقطر وإندونيسيا ونيجيريا بالإضافة إلى فلسطين، والأمينين العامين للجامعة العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي. ورغم أنّ تشكيل مجموعة الاتصال هذه قد لا يخرج عن محاولات إظهار رد فعلٍ سريع وإنْ خلا فعلياً من جوهرٍ واضح وثابت، إلا أنها خطوة من الممكن البناء عليها في المرحلة اللاحقة؛ إذ تمثل اللجنة السباعية 57 دولة عربية وإسلامية، تتفق هذه الدول فيما بينها على جملة من المسائل الأساسية، أولها: وقف فوري لإطلاق النار، لكن الأهم، أنها تتفق على أنّ شكل الحل الدائم للقضية الفلسطينية، يكون على أساس مبادرة السلام العربية والقرارات الدولية الأخرى ذات الصلة، والمثير للانتباه أن «السباعية» بدأت تحركها على المستوى الدولي من الصين بدلاً عن الدول الغربية التي عملت على تعطيل الحل منذ عقود، وانطلق ممثلو الدول إلى بكين، ثم إلى موسكو، بغياب تركيا التي أكد وزير خارجيتها أنه سينضم لاحقاً للجولة الدولية.
من بكين نحو «عملية سياسية جادة»
أعلن المسؤولون الصينيون منذ بدء المواجهات في الأراضي المحتلة عن موقف واضح داعم لحل القضية الفلسطينية، وتميّز الخطاب الصيني بتحميل المسؤولية للولايات المتحدة وسياساتها في المنطقة، ودعت بكين فوراً إلى عقد مؤتمر دولي عاجل لحل القضية الفلسطينية، على أساس حل الدولتين، بوصفه السبيل الوحيد القابل للتطبيق في الوقت الحالي. وعلى هذا الأساس يبدو اختيار مجموعة الاتصال لبكين كمحطة أولى بالغ الأهمية، فالصين تعمل بشكل معلن على حل القضايا المعلقة في المنطقة، وتظهر بوصفها صاحبة مصلحة حقيقة بإنهاء هذا الصراع بشكلٍ عادل، ومن هناك أعلن وزير الخارجية السعودي، أن «التحرك يأتي باسم جميع دول أعضاء الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي باتجاه وقف فوري لإطلاق النار» ويهدف لإطلاق عملية سياسية «جادة وحقيقية» لتحقيق سلام دائم وشامل على أساس المرجعيات الدولية. وفي سياقٍ متصل عبّر وزير الخارجية المصري سامح شكري لنظيره الصيني وانغ يي عن تطلع بلاده إلى دور أكثر قوة من بكين لوقف الاعتداءات على الفلسطينيين في قطاع غزة. الزيارة بدت مقلقة بالنسبة للكيان الذي سارعت سفيرته لدى بكين بإطلاق تصريحات أملت فيها «ألا تصدر أي بيانات عن هذه الزيارة بشأن وقف إطلاق النار» وهو ما لم يؤثر أبداً على ما خرج عن هذا اللقاء.
موسكو المحطة الثانية
لم تختلف التصريحات الصادرة من موسكو، بل أكدت الهدف من هذه الزيارات، وهو الوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار، بالإضافة إلى هدف نهائي للمجموعة، وهو الإسهام في حل الدولتين على أساس القرارات الدولية. وفي أثناء لقاء الوفد العربي والإسلامي مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، عبّر الأخير عن ترحيب موسكو بالمبادرة العربية-الإسلامية حول غزة، وقال: إنه يجب حل المسائل العالقة، مثل وقف إطلاق النار الذي اعتبره أولوية، بالإضافة إلى إطلاق سراح الأسرى. وقال وزير خارجية روسيا إنه يجب التحضر لإطلاق عملية سلام على أساس حل الدولتين. منوهاً إلى الدور الرئيسي الذي تلعبه الدول العربية والإسلامية لحل الأزمة، وأشار إلى الجهود الجدية الكبيرة التي بذلتها قطر في ملف الأسرى، ما مهد الطريق لاحقاً للهدنة الحالية. ومن جانبه اعتبر وزير الخارجية السعودي أن «استمرار إسرائيل بانتهاك القانون الدولي يضعف شرعية هذا القانون، ويغذي العنف والتطرف» وأضاف إن المرحلة القادمة لا يجب أن تقتصر على إيجاد حل لغزة فقط، بل يجب الدفع بحل شامل على أساس حل الدولتين.
دور أوضح لـ«دول الجنوب»
التغيرات التي كان يشهدها العالم في السنوات الماضية، كان لابد لها أن تنعكس بشكلٍ ملموس مع انفجار العدوان الصهيوني الجديد في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إذ بدا واضحاً منذ اللحظات الأولى، أن روسيا والصين تحمّلان الولايات المتحدة المسؤولية الأولى عمّا يجري، فواشنطن استخدمت الكيان منذ نشأته لتنفيذ سياساتها في المنطقة، وأوكلت له مهمة أساسية بتحويل الشرق الأوسط إلى نقطة توتر دائمة، لعب فيها الكيان دور المحرض الأساسي، وعصا واشنطن المرفوعة بوجه دول المنطقة، واليوم، ترى مجموعة من دول العالم الصاعدة، أن بقاء الوضع على حاله يعيق تشكّل العالم الجديد، ويؤخر إنهاء الهيمنة الأمريكية، ولذلك تحديداً يظهر الآن وبشكلٍ واضح أن «دول الجنوب» تسعى لسحب الملف من أيدي الغرب بهدف وضعه على طاولة الحل، ولعل الإشارة الأهم في هذا السياق كانت انعقاد قمة استثنائية لدول مجموعة بريكس على مستوى الرؤساء لنقاش الأوضاع المستجدة في غزة، وكان هذا الاجتماع هو الأول بعد قبول عضوية دول جديدة بينها دول عربية مؤثرة، مثل: السعودية ومصر، وبدا واضحاً في القمة الأخيرة، والكلمات التي قُدمت ضمنها، أن القضية الفلسطينية لا تُقدّم بوصفها مسألة منعزلة، بل ترى هذه الدول أن حل القضية الفلسطينية بشكل عادل هو حجر أساس في منطقة الشرق الأدنى لبناء عالمٍ جديد. فوجود الكيان بشكله الذي عرفناه منذ تأسيسه أصبح معيقاً لهذا العالم، ولذلك تحديداً تبدو الآمال كبيرة حول الدور اللاحق لدول الجنوب الصاعدة... وهذا الدور المشتق من توازنٍ دولي جديد، هو دور طبيعي وموضوعي بل ويمكن القول إنه اضطراري خاصة بالنسبة لتلك الأنظمة التي ما تزال تلعب مع الغرب من فوق ومن تحت الطاولة...
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1150