«قمة نيودلهي» نقطة تحول جديد: هل تنجح قوى العالم الجديد في إصلاح مجموعة العشرين؟

«قمة نيودلهي» نقطة تحول جديد: هل تنجح قوى العالم الجديد في إصلاح مجموعة العشرين؟

استضافت العاصمة الهندية نيودلهي من 9 إلى 10 أيلول الجاري، أعمال قمة لمجموعة العشرين، التي تحوّلت كغيرها من الأطر الدولية إلى ساحة للاستقطاب السياسي، ولم يكن من الممكن التنبؤ بنتائجها، وخصوصاً أنها تضم بين أعضائها دولاً تخوض مواجهة شرسة فيما بينها منذ سنوات، وانعكس ذلك في معظم المحافل الدولية، وخصوصاً بعد اندلاع المواجهات المباشرة في أوكرانيا.

الأجندة التي جرى تحضيرها لهذه القمة كانت حافلة، وحملت معها الكثير من القضايا المهمة على عدة مستويات، فبحسب جدول الإعمال، كانت الأزمة في أوكرانيا حاضرة، بالإضافة إلى قضايا المناخ التي لم تعد قابلة للتأجيل، والكثير من المسائل الأخرى، مثل: نقاش قبول الاتحاد الإفريقي كعضو جديد في المجموعة، وهو ما جرى إعلانه لاحقاً، وأيضاً الإعلان عن مشروع كبير للنقل عن طريق البحر والسكك الحديدية بهدف ربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، ومشروعٌ آخر مهم أعلن عنه الرئيس، رجب طيّب أردوغان، يهدف لربط تركيا بدول الخليج عبر العراق.

على جدول الأعمال أيضاً!

القمة، وبعيداً عن جدول أعمالها الرسمي، تكون فرصة لعقد العديد من اللقاءات الثنائية، التي يمكن من خلالها رصد تطور عدد من الملفات على المستوى العالمي، وكان من المثير للانتباه أن كِلا الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين، والرئيس الصيني شي جينبينغ، اعتذرا عن الحضور، ومثّل روسيا وزير الخارجية سيرغي لافروف، ومثّل الصين رئيس مجلس الدولة، لي تشيانغ. ما طرح العديد من التساؤلات حول سبب هذا الغياب، وفتح الباب أمام تأويلات كثيرة ردت غياب الصين إلى توتر العلاقات بين نيودلهي وبكين، دون أي تأكيد رسمي من قبل البلدين، مع ظهور تحليلات أخرى تشير إلى أنّ غياب الرئيس الصيني كان رفضاً للقاء الرئيس الأمريكي، الذي أعلن بدوره عن «خيبة أمله من غياب نظيره الصيني». وردت بعض الآراء سبب غياب الرئيس الروسي إلى كونه إعلان موقف من المحاولات الغربية المستمرة للتضييق على روسيا، فيما كان السبب الرسمي المعلن هو انشغال بوتين «بالعملية العسكرية الخاصة في أوكرانيا» والتي حملت رسالة واضحة إلى كل الحاضرين في القمة.

صراع حقيقي على بضع كلمات!

ظهر استقطاب حاد في أعمال القمة السابقة في 2022، التي استضافتها جزيرة بالي في إندونيسيا، وأصرّت الكتلة الغربية في حينه على لهجة قاسية في البيان الختامي، الذي وجّه انتقادات لروسيا وطالبها الانسحاب من الأراضي الأوكرانية. وبالرغم من أن بعض الدول الأعضاء في المجموعة عارضوا هذا التوجه، إلا أن البيان اكتفى في حينها باستخدام تعبير «معظم الدول الأعضاء»، في إشارة إلى أن هذا البند لا يعبر بالضرورة عن موقف كامل أعضاء دول المجموعة. لكن القمة الأخيرة في الهند حملت تطوراً ملموساً في هذه المسألة، إذ اكتفى البيان بإدانة «الحرب في أوكرانيا» بدلاً من مصطلحات أخرى «كالحرب على أوكرانيا» ولم يوجّه البيان الختامي انتقاداً لروسيا بشكلٍ مباشر. ما يعني أن البيان لم يتحول كما أرادت واشنطن إلى مساحة إضافية لتسويق وجهة النظر الغربية حول أسباب وطبيعة الصراع في أوكرانيا، وفي تصريحات للمسؤول الهندي أميتاب كانت، الذي كان من أبرز منظمي القمة، قال فيها: إن الفقرة الخاصة بأوكرانيا احتاجت أكثر من 200 ساعة من المفاوضات المتواصلة، و300 اجتماع ثنائي و15 مشروع نص للبيان الختامي. ما يدل على أن الصراع على صياغة الكلمات القليلة هذه، لم يكن يرتبط بأوكرانيا وحدها، بل يرتبط بتنامي وزن الكتلة الرافضة للهيمنة الغربية، والتي لم تعد أجندتها اليوم كافية لتكون مظلّة للكتلة الأكبر على المستوى العالمي.

معنى ما يجري!

يبدو من طبيعة الأخبار والتصريحات التي يجري تداولها في وسائل الإعلام، أن الغرب يبدي حالة واضحة من عدم الارتياح إزاء مجريات القمة الأخيرة، وخصوصاً بعد التنديد الأوكراني بالبيان الختامي، فالرئيس الفرنسي تذكّر أخيراً السبب الأساسي لتأسيس المجموعة بعد المحاولات الغربية والأمريكية المتواصلة لتسيس كل الأطر والمنظمات الدولية! وقال: إن «المجموعة التي تأسست لحل القضايا الاقتصادية الدولية ليست بالضرورة المكان الذي يُتوقع منه أن يحرز تقدماً دبلوماسياً بشأن الحرب في أوكرانيا» كمحاولة منه لتبرير الفشل الغربي في استصدار البيان الختامي بالشكل الذي يريد.
وبينما رأى رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا، أن «العدوان الروسي على أوكرانيا يمكن أن يهز أسس مجموعة العشرين» اعتبر لافروف أن القمة كانت ناجحة، وأن المجموعة تعيش مرحلة إصلاح.

عن أي إصلاح يجري الحديث؟

تصريحات لافروف هذه شكّلت صدمة في أوساط واسعة، وأظهرت الوفد الروسي بموقعٍ متقدمٍ وفاعلٍ داخل القمة، بالرغم من تمثيله المنخفض، وبحسب كلمات الوزير، كانت القمة في نيودلهي «بمثابة نقطة تحول فيما يتعلق بالتوجهات لضمان توازن المصالح في الاقتصاد العالمي»، واعتبر أن المجموعة ستعطي «زخماً جديداً لإصلاح صندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية» وأعلن في الوقت نفسه: إن الغرب لم يعد قادراً على «مواصلة خط الهيمنة مع ظهور مراكز جديدة للتنمية العالمية» واعتبر لافروف أن الموقف الموحد للجنوب العالمي أسهم بشكل كبير في إفشال محاولة الغرب لما أسماه «أوكرنة جدول الأعمال» بدلاً من تسخيره لنقاش المشاكل الملحة للبلدان النامية حسب تعبيره.
وحول مسألة إصلاح المجموعة نفسها، اعتبر رئيس الوفد الروسي، أن هذا الإصلاح يتجلى بالدرجة الأولى في الإسهام المتنامي لأعضاء مجموعة العشرين من الجنوب العالمي، الذين عملوا بحسب الوزير على «أخذ مصالحهم بعين الاعتبار في الاتفاقيات التي بحثتها مجموعة العشرين، ونجحت في تضمينها بإعلان القمة». لكن إذا ما بحثنا بشكل أعمق حول طبيعة هذا الإصلاح الذي يتحدث عنه لافروف، ما هي مقوماته؟ وإلى ماذا يهدف؟ وللإجابة عن أسئلة من هذا النمط لابد لنا من الإحاطة سريعاً بتاريخ تأسيس هذه المجموعة وكيف تطور دورها.

1139-19

عودة ضرورية للتاريخ

المجموعة التي يعود تاريخ تأسيسها في شكلها الجنيني إلى العام 1999 ارتبطت بشكل أساسي بتحديات كبرى يعيشها الكوكب، فالأزمة المالية الآسيوية 1997 وما رافقها من أزمات مالية في مناطق مختلفة من العالم، كانت المحفز لإيجاد هذا الإطار الذي كان في حينه عبارة عن منتدى يضم في صفوفه وزراء المالية ومحافظي البنوك المركزية لعشرين دولة، هي الولايات المتحدة الأمريكية، الصين، وروسيا، والهند، والسعودية، وتركيا، وألمانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وكندا، والبرازيل، والأرجنتين، واستراليا، واليابان، وكوريا الجنوبية، وجنوب إفريقيا، وإندونيسيا، وبريطانيا، والمكسيك، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي الذي يتمتع بعضوية دائمة «وتم منح الاتحاد الإفريقي مقعد دائم في القمة الأخيرة». ثم كانت الأزمة المالية التي ضربت العالم في 2008 سبباً إضافياً لتوسيع إطار عمل المجموعة وتحويلها إلى قمة رئاسية للدول الأعضاء، لكن نشوء هذه المجموعة يرد بشكل أساسي إلى نشاط مجموعة الدول الصناعية السبع «G7» التي ضمت دول الكتلة الغربية صاحبة الوزن الاقتصادي الأبرز على الساحة العالمية في حينه.

قمة نيودلهي وبوادر التحول

هذا العرض التاريخي المقتضب يمكن أن يكون نقطة أساسية في فهم مجريات القمة الأخيرة في نيودلهي، فبعد اجتماع بريكس الأخير والذي أعلن أثناءه ضم ست دول جديدة إلى المجموعة، كان من بينها السعودية والأرجنتين، وهما عضوان أساساً في مجموعة العشرين، أصبح على هذا الأساس وزن «بريكس الموسعة» داخل الـ G20 أكثر وضوحاً وتأثيراً، بل هو الوزن الاقتصادي الأبرز إذا ما أخذنا بعين الاعتبار أن الناتج الإجمالي على أساس تعادل القوة الشرائية لمجموعة BRICS حتى قبل انضمام الدول الست الجديدة، تجاوز بالفعل نظيرها لدى مجموعة السبع، ما يعني أن الأساس السياسي والاقتصاد لتغيير وإصلاح دور المجموعة أصبح محققاً. أي أن الوزن الغربي داخل المجموعة التي أنشأها بنفسه لم يعد دوراً مهيمناً، وعلى هذا الأساس يمكن أن تكون «قمة نيودلهي» نقطة علّام على عدّة مستويات، أبرزها: أن تكون بداية لتحويل المجموعة بشكلٍ فعلي إلى إطار لتنسيق الجهود على المستوى العالمي وساحة لحل المشكلات الكبرى التي نواجهها، بعد حرمان الغرب من استخدامها كأداة إضافية في الصراع مع خصومه!

ملاحظات أولية حول شكل التطور الحالي

ما يثير الانتباه في المسألة، أن مجموعة تكتل دول الجنوب التي يجري الحديث عنها، وتحديداً روسيا والصين، لا يبدو أنها تسعى لنسف مجموعة العشرين، حتى وإن كان تأسيسها فكرة غربية، وينسجم هذا التقدير مع موقف الدول الصاعدة من مجمل المؤسسات والهياكل الدولية التي جرى تأسيسها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وضمنها الأمم المتحدة، إذ ترى هذه الدول أن كل هذه الأطر كانت قادرة على أداء أدوار محددة في مجالات مختلفة، وبدأت المشكلة حين جرى تجيير نشاطها لخدمة المصالح الأمريكية والغربية. وترى الكتلة الصاعدة اليوم، أن العديد من هذه الأطر لا تزال صالحة وقادرة على أداء دور أفضل على المستوى العالمي، شرط سحبها من النفوذ الغربي، وأثبتت التجربة، أن سحب السطوة الغربية لا يمكن أن يتم إلا عبر معارك سياسية ودبلوماسية ضارية، ولن تكون مئات الساعات كمثل تلك التي أشرنا إليها في سبيل اعتماد فقرة أوكرانيا في البيان الختامي، لن تكون آخر هذه المعارك. ولكنها بكل تأكيد تشير إلى أوزان الكتل المتصارعة.

في السياق ذاته، قد تثبت التجربة أن بعض هذه الأطر ستكون عصية على الإصلاح، ولا يمكن اعتمادها دون إجراء تغييرات هيكلية كبرى، أو حتى إيجاد بدائل لها. وستبقى كل هذه المسائل والاحتمالات موضوعة على الطاولة، وستكون الأشهر والسنوات القليلة القادمة كفيلة بتقديم الإجابات النهائية حولها، لكن ما يبدو مؤكداً الآن، أن الجولة الأخيرة من المواجهة في قمة العشرين كانت خاسرة بالنسبة للغرب، وما يثير الانتباه أن هذه الخسارة كانت في داخل المجموعة التي أسسها وقاد العمل ضمنها لسنوات طويلة.

1139-5

معلومات إضافية

العدد رقم:
1139