«أين ستقف إفريقيا في نهاية المطاف؟» وأسئلة أخرى عن المستقبل

«أين ستقف إفريقيا في نهاية المطاف؟» وأسئلة أخرى عن المستقبل

أثار انقلاب النيجر في شهر آب الجاري حالة من الرعب في أروقة السياسة الفرنسية تحديداً والغربية عموماً، مما طرح الكثير من التساؤلات، انصبّ معظمها في محاولة فهم السبب الحقيقي لهذا القلق، ومن ثم فهم الخيارات المتاحة بالنسبة لواشنطن وباريس، خصوصاً إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مجمل التغيرات الإفريقية المشابهة في العقد الماضي التي جرت عكس مصالح الغرب.

منذ اللحظات الأولى التي تلت انقلاب الجنرال عبد الرحمن تياني، لم يكن من الممكن فهم كافة خطوط الحدث، أو حتى فهم المواقف العميقة لكل القوى الإقليمية والدولية. وينبع ذلك من درجة التعقيد والتداخل الهائلة في معظم الدول الإفريقية التي سعت الكثير من القوى الدولية لتدعيم حضورها فيها عسكرياً واقتصادياً وسياسياً، مع كل ما نتج عن ذلك من علاقات متشابكة بين هذه الدول والنخب الحاكمة والمسيطرة في الجيوش الإفريقية.
قدّمت «قاسيون» في أعداد سابقة تغطية للتطورات الجارية والتداعيات الأوّلية لذلك على الوضع السياسي في إفريقيا والعالم، ويمكن الرجوع إلى مادتين حول الموضع، الأولى بعنوان «انقلاب النيجر… هل يعمّق المأزق الغربي؟» والثانية بعنوان: «النيجر… هل تحتاج الشعوب الإفريقية أسباباً إضافية للانتفاض على الغرب؟»

«الانقلاب» كوسيلة لإحداث التغيير

في الوقت الذي تتفق معظم الدول على موقف ثابت من الانقلابات السياسية، وترفض في مواقفها المعلنة هذا الشكل من أشكال انتقال السلطة، إلا أن الانقلاب بحد ذاته- وبعيداً عن تحديد موقف من هذه الوسيلة- هو تعبير عن تغيير كبير فيما يجري في داخل البلد المعني، حين لا يمكن التوفيق بين القوى الفاعلة في داخله بالطرق التقليدية. بل إن ظاهرة الانقلابات العسكرية في إفريقية لا يمكن فصلها عن تاريخ الدول السياسي، وهو ما يمكن أن يرد إلى مستوى تطور القوى السياسية ودرجة التنظيم السياسي في الشارع، ما كان يدفع القوى المؤثرة إلى اللجوء إلى هذا الشكل بهدف إحداث التحولات المطلوبة- من وجهة نظرهم- في لحظة محددة. والأكثر من ذلك، يبدو واضحاً أن الانقلابات العسكرية لم تكن تاريخياً حدثاً داخلياً منفصلاً عن الإقليم والعالم، بل لعبت علاقات القوى الانقلابية الخارجية دوراً في اتخاذ القرار أو تخطيطه أو حتى دعمه لاحقاً إن لزم الأمر أو في الحد الأدنى تلقت تطمينات من الدول المحيطة أو المؤثرة بالتزام الحياد، ما من شأنه أن يؤمن المناخ الإقليمي والدولي المواتي لنجاح خطوة كهذه.

هل يمكن أن يكون الانقلاب فرصة كامنة؟

مع الأيام الأولى التي تلت الانقلاب، تبين أن دولاً مجاورة للنيجر مثل مالي وبوركينا فاسو، أبدت استعداداً لتقديم مساعدة متعددة الأوجه للسلطة الانقلابية، ما وضع انقلاب تياني ومن معه ضمن السياق ذاته الناظم لتطور الأحداث في غرب إفريقيا. الذي يقول إن النتائج الملموسة لهذه التطورات جرت على حساب النفوذ الغربي، وإن سلسلة الانقلابات التي حدثت مؤخراً أنتجت واقعاً أصعب أمام الغرب وأكثر صدامية معه. فقد اضطرت فرنسا مثلاً عقب انقلاب مالي إلى نقل جنودها من هناك إلى النيجر كواحد من آخر معاقل قواتها في المنطقة، ثم اضطّرت للانسحاب من بوركينا فاسو أيضاً وطُرد سفيرها من كلا البلدين. هذا إلى جانب كون الخطاب الرسمي للسلطة الانقلابية في النيجر صاغ موقفاً واضحاً وصريحاً من الوجود الفرنسي في البلاد، وهاجم النهب الاستعماري الذي مارسته فرنسا لعقود. وأعلن من طرفٍ واحد إنهاء الاتفاقيات العسكرية الموقعة مع فرنسا التي سمحت بموجبها بقاء القوات الفرنسية في البلاد. لكن كل ذلك لا يقدم جواباً كافياً عن الطبيعة النهائية للتغيير الجاري ولا يقدّم التصور الشامل عن خريطة العلاقات الإقليمية والدولية المتوقعة في المستقبل، لكن ذلك لا يمنعنا من عرض بعض المسائل في هذا الخصوص.

تدبير أمريكي أم مناورة؟

كثرت التقارير الإعلامية في الأسبوع الماضي التي تحاول التمييز بين الموقف الفرنسي والأمريكي من تطور الأحداث في العاصمة نيامي، وفي الحقيقة لا يمكن المطابقة بين الموقفين، لكن الاختلافات الظاهرة حتى اللحظة لا يمكن أن تكون كافية للخروج بالاستنتاجات المتسرعة التي تروّجها هذه التقارير. فواشنطن لجأت بعد أيام من التصريحات الغاضبة إلى إرسال مندوب لفتح قنوات حوار مع السلطات الانقلابية وهو ما لم تفعله فرنسا حتى اللحظة، أو على الأقل لم يكن معلناً. فالتقت وكيلة وزارة الخارجية الأمريكية للشؤون السياسية ونائبة وزير الخارجية بالوكالة فيكتوريا نولاند مع السلطات الجديدة في نيامي، وأجرت نولاند سلسلة من الجلسات التشاورية لم تصل إلى أي نتائج ملموسة، ثم أتت الخطوة التالية التي عيّنت واشنطن بموجبها سفيرة جديدة لها في النيجر، لكنّها لم تسلّم أوراق اعتمادها بعد للسلطات هناك، ما أظهر مجدداً مساعي أمريكية لفتح خطوط مع السلطات الجديدة. هذا النهج بدا مختلفاً جذرياً عن النهج الفرنسي في للتعامل مع الملف. وتعكس بعض التصريحات الرسمية أو شبه الرسمية أمزجة الدول وما الذي تسعى إليه بالضبط، ففي تصريحات للمسؤول السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي في البيت الأبيض، كاميرون هدسون، قال فيها، إنّ «عدم رضا باريس عن نهج واشنطن ناجم عن فقدان أحد آخر موطئ قدم إستراتيجي في غرب إفريقيا» واعتبر هدسون أن «المخاطر بالنسبة لفرنسا في النيجر أعلى بكثير من واشنطن... إنها هزيمة نفسية وإستراتيجية لفرنسا». لكن بعض التدقيق في كلمات هدسون، يكفي للقول إن الواقع يبدو مختلفاً كلياً إذ قد يكون حجم الخسائر الأمريكية أكبر بكثير من الخسائر الفرنسية.

محاولة لقياس النتائج

لا يمكن في البداية إنكار وجود علاقات بين واشنطن والعسكريين الذين قادوا التحرك في النيجر، لكن هذه العلاقات كغيرها من العلاقات الكثيرة التي جمعت بين واشنطن وعسكريين وسياسيين بارزين في إفريقيا لم تكن كافية للتحكم بمجرى الأحداث دائماً. فما جرى الآن في النيجر دفع واشنطن للقيام بتحركات سريعة بهدف احتواء الموقف، وهو الشكل الأولي الذي كانت الولايات المتحدة مضطرة للقيام به كرد على ما يجري، فالانقلاب كان بمثابة إعلان عن تحول قيد التحضير يمكن أن يضيف النيجر إلى قائمة البلدان ذات النزعة الاستقلالية التي ترغب في كسر القيود الغربية والبحث عن علاقات دولية ملائمة أكثر، أي إن واشنطن كانت في هذه اللحظة أمام خيارات محدودة جداً، فالخيار الأول كان القيام بعمل عسكري يطيح بالسلطة الانقلابية، وظهر من اللحظات الأولى أنه الخيار الأول غربياً وأوكل هذه المهمة إلى دول مجموعة «إيكواس» التي تبدو أنها لا تملك الموارد الكافية لإنجاز المطلوب منها، ولا تستطيع فرنسا أو واشنطن تقديم الدعم اللازم لإنجاز هذه المهمة لأسباب واعتبارات مختلفة، وخصوصاً أن النيجر نظّمت خطوات في المقابل كان آخرها اجتماع قادة أركان الدول الثلاث النيجر وبوركينا فاسو ومالي لبحث سبل الرد على أي تدخل عسكري يمكن أن يحدث، هذا بالإضافة إلى مواقف دول مؤثرة في الإقليم مثل الجزائر، التي ترفض حل المشكلة باللجوء إلى الخيار العسكري، كل ذلك يقلل حظوظ هذا الأخير، وأكد أن التهور بعمل عسكري مفتوح ممكن أن يتحول إلى نقطة اشتباك كبرى قد تكون خسارة الغرب للنيجر أقل نتائجه كارثية بالنسبة لهم.
استبعاد حظوظ العمل العسكري جعل واشنطن أمام خيارين لا ثالث لهما، الأول أن تترك الأمور تتطور، وهو ما ستكون نتائجه محسومة لغير صالحها إذا ما أخذنا بعين الاعتبار مجمل التطورات في القارة مؤخراً، والثاني أن تحاول التأثير بمزاج السلطات الجديدة عبر فتح خطوط للتفاهم، وبالرغم من أن هذا الخيار لا يمكن الجزم بنتائجه فوراً إلا أن السياق العام يمكن أن يقدم تقديرات أولية حول المسألة.

التوجه شرقاً بوصفه ضرورة

شهدت مجمل القارة الإفريقية تسارعاً في بناء علاقات مع روسيا والصين، وكانت أوجه التعاون المشترك بين هذه الأطراف كثيرة، مثل الجوانب الأمنية والعسكرية، والاقتصادية، بالإضافة إلى تأمين جزء كبير من مستلزمات الغذاء وغيرها. وهذا ما زاد من الصراع على النفوذ في القارة. فالنفوذ اليوم في إفريقيا له عدة مستويات ينبغي أن تظل حاضرة، الأول مرتبط بأنّ الإمكانات الهائلة للقارة، التي لم يعد بالإمكان تجاهلها.
المستوى الأول شديد الراهنية، ويرتبط بكون إفريقيا تؤمن اليوم خامات رخيصة ويعتبر القدرة للوصول إلى هذه الخامات وحمايتها عنصراً أساسياً قد يكون حاسماً في تأمين موارد الصراع الدولي الحالي، وتحديداً بالنسبة للدول التي كان وزنها الضخم مرتبطاً بشكل أساسي بسيطرتها على الخامات الإفريقية الرخيصة، ونقصد الدول الغربية بشكلٍ رئيسي. أمّا المستوى الثاني فإستراتيجي وبعيد المدى، فالعالم اليوم يعيش لحظات مفصلية وينبغي تسخير كل الإمكانات الضرورية للانتقال إلى مرحلة جديدة، يحل فيها الكوكب مشكلاته الرئيسية كتأمين الغذاء الضروري والطاقة وكل مستلزمات العملية الإنتاجية، وبالتالي لا يمكن اليوم أن تغفل أيّاً من القوى العظمى عن كون إفريقيا مفتاحاً أساسياً للمرحلة اللاحقة، لكن شكل العلاقات التاريخية التي جمعت دول القارة مع الغرب لم يقدّم نموذجاً مشرقاً ولا يستطيع اليوم تقديم ما يلزم لإنجاز الانتقال المطلوب، بينما تستطيع روسيا والصين مثلاً أن تقدّم الكثير لدول إفريقيا، ولا يجري الحديث هنا عن مساعدات على شكل «المساعدات الغربية»، بل عن استثمارات كبرى في البنى التحتية وتوطين العديد من الصناعات والتكنولوجيا ونقل الزراعة من شكلها البدائي المتخلف إلى أعلى أشكال التطور الممكنة، هذا بالإضافة إلى تأمين التكنولوجيا اللازمة لحل مشكلة الطاقة، وتأمين الاحتياجات الضرورية منها لمرحلة النهوض اللاحق، وأيضاً تستطيع هذه الدول تقديم العون في مجال التسليح والتدريب لحل مشكلات كبرى وحيوية ليس آخرها انتشار الإرهاب المصنع في منطقة الساحل والآثار الكارثية التي لحقت بدوله واستقرارها. فالمقلق بالنسبة لواشنطن أن شكل التعاون الحاصل والمتسارع بين إفريقيا من جهة والدول الصاعدة من جهة أخرى، يحوّل هذه القارة لا إلى مستعمرة صينية أو روسية، بل إلى «قطب» جديد في العالم قادر على المشاركة في رسم سياسات وقواعد العالم الجديد التي لن يكون للولايات المتحدة فيها حصة الأسد كما كان سابقاً. فمن هذه الزاوية بالتحديد يمكننا القول إن أي تحوّل يجري اليوم في إفريقيا سيفرض على واشنطن ضخ المزيد من الموارد والإمكانات العسكرية والدبلوماسية والاقتصادية بهدف التحكم به والسيطرة عليه، وكل ذلك يجري في لحظات لم تعد واشنطن قادرة على إدارة مواردها في الجبهات الكثيرة التي تورّطت بها، فمن هذه الزاوية تحديداً تكون خسائر واشنطن من فتح أي جبهة جديدة في إفريقيا خسائر فادحة لا يمكن قياسها بمليارات الدولارات كحال فرنسا، بل تصل إلى حد كونها خسارة إستراتيجية كبرى قد لا تقوى واشنطن على الوقوف من بعدها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1136