إفريقيا... قصة الثروة المنهوبة ورحلة البحث عن البدائل
أوديت الحسن أوديت الحسن

إفريقيا... قصة الثروة المنهوبة ورحلة البحث عن البدائل

ما هو حجم الثروات في إفريقيا؟ وهل يمكن تجاهل أرقام كهذه في الحديث عن مستقبل البشرية؟ أسئلة لا يمكن القفز فوقها، ولا يمكن التمهيد لها إلا عبر توضيح حجم وآليات النهب، وهو أكثر الجوانب جوهرية في علاقة إفريقيا مع الغرب، ومدخل لفهم حاجة دول القارة للبحث عن البدائل.

سنستعرض في هذا التقرير حجم الثروات المقدرة والمكتشفة في إفريقيا، مع دور هذه الثروة في الاقتصاد العالمي، لننتقل بعدها إلى توضيح بعض آليات النهب الغربي للقارة عبر أمثلة متل اتفاق CFA ودور عملة الفرانك الإفريقي في شفط الثروات إلى فرنسا، ودور الديون الغربية في إفقار شعوب القارة وتهميشها وصولاً إلى الدور ووظيفة الجيوش الغربية في القارة.

ثروات إفريقيا

من بين شعوب العالم التي تعرضت لأقصى وأقسى درجات الاستعباد والاستغلال الرأسمالي وأكثره توحشاً هي شعوب القارة الإفريقية، ويزيد في بشاعة الأمر طول المدّة التي استغرقتها شعوب هذه المنطقة للانقلاب على الاستعمار المباشر من جهة، والتعامل مع صيحات الاستعمار الحديث من جهة أخرى. اليوم، تطال التغيرات العالمية القارة الإفريقية بشكل سريع، ربّما هو الأكثر سرعة للمراقب الخارجي. إنّ رحلة «الاستقلال» والتخلّص من الهيمنة الغربية لشعوب القارة معقدة وطويلة، وتحتاج إلى الكثير من الصبر من أجل كشف تفاصيله العامة، ناهيك عن تفاصيل صراع كلّ شعب داخل كل دولة على حدة. خاصة أنّ الصراع ضدّ الهيمنة الغربية يعني حتماً الصراع ضدّ أتباع الغرب داخل هذه الدول، سواء أكان هؤلاء من الطفيليين على جهاز الدولة المدني والعسكري، أو من المنظمات غير الحكومية والمشاريع المرتبطة بالغرب.
قارّة إفريقيا هي قارة مليئة بالشباب، فـ 60٪ من سكان القارة بأكملها تقلّ أعمارهم عن 25 عاماً. يجعلها هذا أصغر قارة سناً في العالم. تقع كامل الدول العشرة ذات معدلات العمر الأقل في إفريقيا، وتأتي النيجر على رأسهم.
تحوي بواطن الأرض في إفريقيا على موارد طبيعية شديدة الأهمية: 98٪ من الكروم في العالم، و90٪ من الكوبالت، و90٪ من البلاتين، و70٪ من الكولتان، و70٪ من التانتاليت، و64٪ من المنغنيز، و50٪ من الذهب، و33٪ من اليورانيوم، وكذلك حصصاً هامة من احتياطات العالم من معادن مثل البوكسيت والماس والتانتالوم والتونغستين والقصدير. تملك القارة الإفريقية 30٪ من احتياطات المعادن العالمية، و12٪ من احتياطات النفط المعروفة، و8٪ من احتياطات الغاز الطبيعي المعروفة، و65٪ من الأراضي الزراعية القابلة للزراعة. قدّر برنامج الأمم المتحدة للبيئة بأنّ رأس المال الطبيعي الإفريقي يشكّل ما بين 30 إلى 50٪ من كامل ثروة الدول الإفريقية. في 2012 قدّرت الأمم المتحدة بأنّ الموارد الطبيعية للقارة تشكّل 77٪ من مجمل وارداتها، و42٪ من مجمل عائداتها الحكومية.
إن اعتماد الدول الإفريقية على تصدير المواد الخام بمختلف أنواعها، بسبب سطوة الشركات متعددة الجنسيات والافتقار إلى التصنيع الكافي في مجموعة من البلدان الإفريقية، جعلها في وضع الاعتماد على رأس المال الأجنبي. تمّت هيكلة حالة التبعية هذه من خلال سياسات الحكام المستعمرين الذين حافظوا على النشاط الاقتصادي في إفريقيا على أساس استخراج المواد الخام التي تم بيعها بعد ذلك من خلال الامتيازات الاستعمارية وما بعد الاستعمارية. هذه التبعية ورثتها أجيال من نخب ما بعد الاستعمار، الذين استمدوا الريوع منها ولم يفعلوا شيئاً لتغيير الهيكل. لذلك، تعتمد الدول الإفريقية على الإيرادات الخارجية من تصدير المواد الخام، وعلى برامج المساعدة من الحكومات الغربية، وعلى المساعدات المؤسسية.

الاستعمار الحديث: CFA مثالاً

إذا ما استثنينا بعض الدول في القارة الإفريقية، مثل مصر، التي حصلت على استقلالها من الاستعمار المباشر في وقت مبكر من القرن الماضي، فأغلبية الدول الإفريقية بقيت تحت الاستعمار المباشر حتّى منتصف القرن الماضي. أثّر هذا بشكل كبير على نضج مؤسسات الدولة والمناخ السياسي في هذه الدول. وحتّى بعد التخلّص من الاستعمار، بقيت هذه الدول مرتبطة بشكل كبير، وبشكل هيكلي أحياناً، بمستعمريها السابقين. فإذا أخذنا مثالاً اتفاق CFA بين فرنسا و14 دولة من غرب ووسط إفريقيا، هي «بينين وتوغو وبوركينا فاسو ومالي والسنغال وساحل العاج والنيجر وغينيا بيساو وتشاد والكاميرون وجمهورية وسط إفريقيا وغينيا الاستوائية والغابون»، وهو الاتفاق الذي تودع بموجبه هذه الدول نصف احتياطاتها من القطع الأجنبي في البنك المركزي الفرنسي، سنرى بأنّ بقايا الاستعمار حاضرة بشكل هيكلي في دول القارة.
يقدّر بأنّ فرنسا تحصل اليوم على قرابة 500 مليار دولار سنوياً من الدول الإفريقية التي كانت تجمعها فيها اتفاقية CFA، لتضعها ضمن ماليتها. الأسوأ من ذلك أنّ الدول مالكة هذه الأموال ليس لديها سلطة الوصول إليها. في الواقع لم تجبر فرنسا هذه الدول على وضع نصف احتياطاتها وحسب في البنك المركزي الفرنسي، بل 65٪ من هذه الاحتياطات، بالإضافة إلى 20٪ من «التزاماتها المالية الخارجية financial liabilities»، لتترك لها قدرة الوصول إلى 15٪ فقط من هذه الأموال. وإن احتاجت هذه الدول أموالاً أكثر، سيكون عليها اقتراض هذه الأموال من فرنسا بمعدلات فائدة تجارية! إنّ منطقة CFA تحدّ من التصنيع والتنمية الاقتصادية، ولا تشجّع التجارة بين الدول الأعضاء. كما يحفّز «الفرنك الإفريقي» تدفقات رأس المال الضخمة إلى الخارج، وبسبب سعر الصرف الثابت عمل دوماً على دفع هذه الأموال نحو أوروبا. إنّ 11 من أصل 14 دولة من دول CFA هي الأقل نموّاً في العالم وتقع في أسفل مؤشر التنمية البشرية بحسب الأمم المتحدة. سمحت CFA لفرنسا بالسيطرة الاقتصادية على الدول المنضمة عبر وضع حدود للواردات من خارج منطقتها، لتضمن بذلك سلسلة طلب وعرض مستمرة تسمح بالتفوق الاقتصادي لها أثناء إعاقة قدرة الدول الإفريقية على النمو.
في أيّار 2020 صدّقت «الجمعية الوطنية الفرنسية» على قانون يسمح بإنهاء اتفاق CFA، والطلب من الدول الإفريقية وضع احتياطاتها في فرنسا. لكن من حيث التطبيق العملي، لا تزال العلاقة نفسها تربط فرنسا بهذه الدول، ما دفع الحركات التي انتفضت في بعض هذه الدول إلى اعتبار الخطوة التي تمّت في 2020 مجرّد خطوة إعلامية يجب تطبيقها في الواقع. إنّها لا تحرر دول CFA من التبعية الأوروبية، كما أنّ الترتيبات الجديدة حين تطبيقها ستسمح لفرنسا بمواصلة دورها كضامن لاحتياطات دول غرب إفريقيا «إيكواس ECOWAS» سيعني أنّ لديها السلطة على الاحتياطات، ولكنّها ليست ملزمة بعد اليوم بمساعدة دول CFA في حال حدوث أزمة.
إن أردنا تخصيص حديثنا عن فرنسا، يمكننا العودة إلى مقولة للرئيس الفرنسي جاك شيراك في آذار 2008 لمعرفة مدى أهميّة إفريقيا لفرنسا. قال شيراك: «دون إفريقيا، ستنزلق فرنسا إلى مرتبة قوة من العالم الثالث». وكان ميتران سلف شيراك قد قال: «دون إفريقيا، لن يكون لفرنسا تاريخ في القرن الحادي والعشرين». إنّ هذا الاعتماد الهائل لفرنسا على القارة جعلها تسخّر كلّ وسيلة ممكنة لإدامة علاقاتها الاستغلالية بالقارة فيما بعد الاستقلال، سواء أكان ذلك يتطلب التدخل العسكري، أو تكثيف حضور المؤسسات والشركات الفرنسية في المنطقة لتعزيز نهبها بأقصى شكل.
إنّ الطفيلية الفرنسية في القارة الإفريقية لا تقف عند هذا الحد، ففرنسا تحوز حقوقاً تفضيلية لشراء أيّ موارد طبيعية توجد في معظم مناطق مستعمراتها السابقة. كما أنّ الشركات والأعمال الفرنسية تتمتّع بأفضليّة في مجال المشتريات العامة. احتفظت فرنسا بالحق الحصري في توفير المعدات العسكرية وتدريب الجيوش الإفريقية عبر نشرها قواتها والتدخل في الدول الإفريقية حفاظاً على مصالح أعمالها. في الكثير من الحالات كانت هذه الدول مُجبرة على التحالف مع فرنسا فقط في حالات الحرب والأزمات. الحروب والأزمات التي كانت في الكثير من الحالات ناجمة عن دعم الفرنسيين للدكتاتوريين أو حتى التدخل المباشر.

الديون الإفريقية

قبل أن يتمّ الإعلان عن وباء كورونا جائحةً عالمية في آذار 2020، كانت الدول الأكثر فقراً في العالم تعاني بالفعل من مستويات مرتفعة من الدين التي لا يمكنها أن تسدده. بين عامي 2011 و2019 أعلن البنك الدولي «الديون العامة في عيّنة من 65 دولة نامية قد ازدادت بنسبة 18٪ من ناتجها المحلي الإجمالي، وأكثر من ذلك بكثير في الحالات الشديدة. في إفريقيا ما تحت الصحراء مثالاً، ارتفعت نسبة الدين لتصل إلى 27٪ من الناتج المحلي الإجمالي لهذه الدول بالمتوسط».
لكنّ هذه الديون لم تكن قد أُخذت من أجل الإنفاق على البنية التحتية والتطوير الاقتصادي الذي قد يؤدي في نهاية المطاف إلى سداد الديون، بل سُحبت من أجل سداد ديون أقدم منها. ثمّ جاء الوباء فتعثّرت البلدان التي تبّنت سياسات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، ولم تتمكن من إيجاد طريقها للخلاص من هذه الديون. تقلصت معدلات النمو في هذه البلدان، ما أدّى إلى تضخّم حجم الديون وقيام حكومات هذه الدول بالمزيد من الاقتراض وفرض المزيد من سياسات التقشف، ما أدّى إلى زيادة عبء الديون بشكل كبير على شعوب هذه البلدان.
إن أخذنا غينيا مثالاً، وهي البلد التي تملك على الأقل ثُلث مخزون العالم من معدن «البوكسيت Bauxite» الذي يتمّ استخراج الألومنيوم منه، فقد دخلت في أفعوانية صندوق النقد الدولي في 2011 لتقع بشكل سريع في دوّامة التقشّف والديون. في 2014 أرسلت الحكومة الغينية إلى صندوق النقد الدولي بأنّ «تخفيض الإنفاق، بما في ذلك الاستثمار المحلي، جعل من المستحيل على غينيا أن تحترم الأهداف الإرشادية للإنفاق في القطاعات ذات الأولوية». بكلمات أخرى، استدانت غينيا لتخرج من الأزمة، فوجدت نفسها مُجبرة على تخفيض الإنفاق الاجتماعي وتعميق الأزمة. في مثال آخر، وجد تقرير لمنظمة اليونيسيف في 2019 بأنّه من بين 25 دولة تنفق على سداد ديونها أكثر ممّا تنفقه على التعليم والصحة والحماية الاجتماعية، هناك 16 دولة في القارة الإفريقية.
لكن وخلافاً لما يحاول صندوق النقد الدولي قوله، تدعمه في ذلك مؤسسات التمويل الغربية التي تسيطر على وسائل الإعلام الكبرى، فأزمة الديون في الدول الإفريقية ليست ناجمة عن إخفاقات السوق قصيرة الأجل، ولا عن سوء إدارة الحكومات للشؤون المالية ولا تجذر الفساد فيها. يمكننا أن نجد السبب الحقيقي للديون في الخطاب الهام الذي ألقاه رئيس بوركينا فاسو الذي تمّ اغتياله في 1987، توماس سانكارا في عام اغتياله، أمام منظمة الوحدة الإفريقية «أصول الديون تأتي من أصول الاستعمار»، حيث أوضح أنّ من يقرضون الأفارقة المال هم ذاتهم الذين استعمروهم «الديون هي الاستعمار الجديد»، حيث تمّت الهيمنة على السياسات المالية والنقدية للعديد من الدول الإفريقية من قبل «القتلة التقنيين technical assassins» للمؤسسات المالية الدولية. وتابع سانكارا القول، «الديون هي إعادة استيلاء على إفريقيا تتمّ إدارته بذكاء بهدف إخضاع نموّها وتنميتها إلى قواعد أجنبية»، فسياسات المؤسسات المالية الدولية توضَع من أجل استخدام الدين كأداة للمطالبة بالتعديل الهيكلي للبنوك المركزية ووزارات المالية.

1136-10

القواعد العسكرية الغربية وضعفها

في 2018 وقّعت الولايات المتحدة اتفاقية عسكرية مع غانا مقابل 20 مليون دولار. ورغم تأكيدات الحكومة الغانيّة بأنّ الأمريكيين لن ينشئوا قاعدة على أراضي البلاد، تحوّل المطار الدولي في العاصمة أكرا إلى قلب شبكة لوجستيات القوات الأمريكية في غرب إفريقيا. في 2018 وحدها كانت الرحلات الأسبوعية من قاعدة رامشتاين الأمريكية في ألمانيا تحمل توريدات– بما في ذلك الذخيرة والسلاح– إلى الـ 1800 جندي أمريكي المتوزعين على طول غربي إفريقيا.
إذا ما تحدّثنا على نطاق عالمي، فالقارة الإفريقية لا تحوي عدداً كبيراً بشكل استثنائي من القواعد العسكرية الأجنبية. وفقاً لخطّة عمليات وزارة الدفاع الأمريكية 2018-2022، فالجيش الأمريكي يدير «حقيبة عالمية تتكون من أكثر من 568 ألفاً من الأصول [أبنية وهياكل]، متوزعة على قرابة 4800 موقع حول العالم». ولكن يبقى الوجود الأمريكي في القارة الإفريقية كبيراً، وليس هذا مفاجئاً. إنّ بصمة الجيش الأمريكي في القارة الإفريقية ليست فقط أكبر من الناحية الكمية من أيّ دولة أجنبية تملك قواعد في إفريقيا، ولكنّ الحجم الهائل لوجودها العسكري وأنشطتها العسكرية يمنحها طابعاً مختلفاً نوعياً. هناك نوعان من المهام التي يقوم بها الجيش الأمريكي في إفريقيا تحت قيادة «أفريكوم Africom».
الوظيفة «الدركيّة»، حيث يعمل الجيش الأمريكي لتوفير المزايا للولايات المتحدة ونخبها الحاكمة، وكذلك جنباً إلى جنب مع جيوش دول الناتو الأخرى، بما في ذلك فرنسا، كضامن لمصالح الشركات الغربية ومبادئ الرأسمالية. توصّل الزعيم الغاني كوامي نكروما إلى النتيجة ذاتها منذ عام 1965، حيث أشار إلى أنّ المواد الخام لإفريقيا تعتبر شديدة الأهمية للبناء العسكري والصناعات في دول الناتو. تحدد تقارير الجيش الأمريكي بشكل روتيني مسؤولية قواته في ضمان تدفّق مستمر للمواد الخام للشركات، والحفاظ على حركة البضائع دون عوائق.
الوظيفة الثانية، هي الوظيفة المرتبطة بما يسمّى «الحرب الباردة الجديدة». مع تزايد المصالح التجارية الخاصة والعامة الصينية والروسية في القارة الإفريقية، ومع استمرار الشركات الصينية في التفوّق على الشركات الغربية من جميع النواحي، ازداد الضغط الأمريكي لمحاولة احتواء الصين في القارة الإفريقية. وصفت إستراتيجية إفريقيا الجديدة للحكومة الأمريكية الصادرة في 2019 الوضع كالتالي، «المنافسون من القوى العظمى، أي الصين وروسيا، يوسّعون بسرعة نفوذهم المالي والسياسي في جميع أنحاء إفريقيا. إنّهم يستهدفون بشكل متعمّد وبقوة استثماراتهم في المنطقة لاكتساب ميزة تنافسية ضدّ الولايات المتحدة». ثمّ تبع ذلك في 2020 صدور «الإستراتيجية الأوروبية الشاملة تجاه إفريقيا»، والذي رغم عدم ذكر الصين وروسيا بشكل مباشر، أعلنت قلق الأوروبيين من المنافسة على الموارد الطبيعية في القارة.
لكنّ الوجود الغربي في القارة – العسكري وغير العسكري – يفقد زخمه وقدرته على التأثير. مثالاً، لم تستطع فرنسا رغم تدخلها العسكري المباشر تقديم حلول فعالة للنزاعات التي طال أمدها، لتعلن انسحاب جيشها في مالي في 2021 بناء على طلب السلطات المحلية. جاء في ورقة لمؤسسة SPF «بعد انسحاب القوات الفرنسية من مالي بدأ الحضور الروسي يزداد، وفي بداية 2022 طردت سلطات مالي السفير الفرنسي. ثمّ بعد عقد قمة الاتحاد الأوروبي والاتحاد الإفريقي في شباط 2022، خاب أمل القادة الأفارقة في المساعدات التي تمّ الإعلان عنها، لا سيما مقارنة بالتزامات الصين وغيرها. كانت العقوبات الغربية ذات يوم أداة فعّالة لإكراه الأفارقة، وغالباً ما ألمحت الولايات المتحدة ودول غربية أخرى إلى استخدامها. مع ذلك، فقد أصبحت أقلّ فاعلية لأنّ المشاركة القويّة في إفريقيا من قبل الصين وروسيا ودول أخرى خلقت ثغرات في هذه السياسة».
إنّ التحركات في الدول الإفريقية تضع بشكل متزايد ومستمر ضغوطاً على القوات الغربية. يمكننا أن نفهم هذا الاتجاه الذي بدأ ولن ينتهي، في إجبار القوات الفرنسية على إنهاء عملية بارخان في مالي في شباط 2022 والبدء بسحب قواتهم منها ونقلهم إلى النيجر. ثمّ في تشرين الأول من العام نفسه أعلن البريطانيون عن سحب جميع قواتهم من مالي أيضاً بسبب «عدم الاستقرار» فيها. ثمّ في بداية هذا العام 2023 منحت بوركينا فاسو القوات الفرنسية شهراً واحداً لسحب قواتها بعد إنهاء العملية أيضاً وطرد السفير الفرنسي. واليوم نرى في النيجر تكراراً للأمر.
التكرار الآخر الذي شهدناه هو لرفع الرايات الروسية في التظاهرات ضدّ الوجود العسكري الفرنسي. وهو رغم كونه أمراً يحتاج إلى الكثير من التفصيل والبحث، يدلّ على أنّ الذين ينقلبون على القوات الغربية وقواتها العسكرية، يدركون حاجتهم لحلفاء يساعدونهم، وقدرتهم على الوثوق في هؤلاء الحلفاء. إنّ استعادة الدور الروسي في إفريقيا سمح بدوره للدول الإفريقية عموماً باستعادة التوازن وفرض معادلة «عسكرية وأمنية» جديدة تفسّر عدم قدرة الغرب على التدخل العسكري السريع في النيجر أو قبلها في بوركينا فاسو ومالي. وسّعت روسيا شبكتها من العقود العسكرية بشكل كبير في القارة، لتصبح اليوم هي أكبر مورّد للأسلحة لإفريقيا بتمثيلها أكثر من نصف جميع الأسلحة التي تتدفق. كما توفّر روسيا تكنولوجيا المعلومات المتعلقة بقطاع الأمن للدول الإفريقية.

تراجع الثقة بالغرب في إفريقيا

حتّى الاقتصاديون المحافظون وغربيو الميول لا يمكنهم أن ينكروا بأنّ المؤسسات الدوليّة التي يسيطر عليها الغرب أو المؤسسات الغربية، هي التي دمّرت إفريقيا. في 2009 نشرت الاقتصادية زامبيّة الأصل دامبيسا مويو كتابها «المساعدات الميتة Dead Aid»، والذي شرحت فيه بشكل وافٍ بأنّ مئات مليارات الدولار التي يتفاخر الغرب بأنّه دفعها كمساعدات للقارّة الإفريقية منذ عام 1970 لم تتوجّه إلى التنمية على الإطلاق، وبأنّها مولّت على نطاق واسع الفساد والحروب الأهلية، والتي أعاقت بدورها النمو الاقتصادي للقارّة. هناك آخرون أشاروا إلى الأمر ذاته، أمثال الاقتصادي البريطاني-الهنغاري بيتر باور الذي أثبت مراراً خلال مهنته بأنّ سياسة المساعدات الخارجية التي تمّ تقديمها لإفريقيا هي أحد الأسباب الرئيسية في عدم نموّ القارة.
لا يمكن للأفارقة أن يثقوا بالغرب ومؤسساته. في بداية الوباء في 2020، وعد صندوق النقد الدولي بأن يمنح القروض دون شروط، وتمّ إنشاء مجموعة لوقف الديون من مجموعة العشرين وغيرها ليعلنوا بأنّ الدول الفقيرة ستتلقى المساعدة الاقتصادية لمنع انهيارها الاقتصادي وتمكينها من الوصول إلى اللقاح. لكن عندما أجرت مؤسسة أوكسفام بحثاً في العام التالي 2021، وجدت أنّ 13 من أصل 15 برنامجاً لصندوق النقد الدولي قد طالب بفرض «إجراءات تقشّف مثل الضرائب على الأغذية والوقود، أو إجراء اقتطاعات ضريبية هامّة تعرّض الخدمات العامة للخطر». كما أنّ مؤشّر «الالتزام بتخفيض اللامساواة» في 2021 أظهر بأنّ 14 من أصل 16 دولة في غرب إفريقيا تخطط لتخفيض الإنفاق بمقدار 26.8 مليار دولار من أجل احتواء نزيف أزمة الديون التي شجعت عليها قروض صندوق النقد الدولي أثناء الوباء.
في عام 2020، أظهر تقرير «مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية» المعنون «مجابهة التدفقات المالية غير الشرعية من أجل تنمية مستدامة في إفريقيا»، بأنّ حجم الأموال التي تمّ إخراجها من إفريقيا بشكل غير شرعي والمحفوظة في الجنان الضريبية حتّى عام 2010، يبلغ على الأقل 32 ترليون دولار. إنّ تهريب الثروة خارج القارة لا يضرّ بأسواقها المالية فقط، بل يسلبها الموارد اللازمة لدفع أجندة تنموية مستقلة قدماً.

البدائل تشجّع الأفارقة على تغيير واقعهم

من البديهي، والواضح على نطاق عالمي، أنّ وجود البدائل عن الغرب ومؤسساته تدفع الدول الإفريقية بشكل متزايد – بطيء أحياناً ولكن لا تراجع فيه – على البحث عن حلول لتغيير واقعهم، وخاصة التبعية للمؤسسات والأنظمة الغربية. على طول العقدين الماضيين برزت عدّة دول – أهمّها الصين – لتصبح الشريك التجاري الأكبر للدول الإفريقية. كمثال، قيام الصين أثناء الوباء بالقيام بشكل منفرد بإعفاء دول القارة من الكثير من الديون العامة والخاصة، جعل الكثير من التيارات السياسية التي تُطالب بكسر الهيمنة الغربية تجد لها ما يجعل صوتها أعلى. كانت الأموال والمشاريع الصينية التي تمّ عرضها على الأفارقة تتبع سياسة تسمح لهذه البلدان بإنشاء مشاريع تنمية مبتكرة وسيادية، ما وضع ضغطاً على المؤسسات الغربية والتابعة للغرب لأنّه قادر على منح هؤلاء البديل الذي يحتاجونه، في المرحلة الحالية على الأقل.
الاستثمارات التي توفّرها المؤسسات التي لا تفرض شروط التكييف الهيكلي، مثل مبادرة الحزام والطريق، وبنك التنمية الجديد التابع لمجموعة بريكس، تزيد من شعبية مصادر هذه الاستثمارات في إفريقيا «يبدو حمل الرايات الروسية من قبل مؤيدي الانقلاب في النيجر على الحكومة التابعة لفرنسا أمراً مفهوماً ضمن هذا السياق». حتّى الترتيبات المالية التي توفّرها الدول غير الغربية، مثل اتفاقيات «التبادل Swap» التي يعرضها بنك الشعب الصيني، تضع أيّ مؤيد للغرب في إفريقيا موضعاً مُحرجاً من المجاهرة بتأييده. وخطوط التبادل هذه تمنح الدول الفرصة للالتفاف على مشكلات سداد الديون، حيث تسمح للبنوك المركزية للدول بمبادلة عملاتها المحلية باليوان الصيني، ما يعطي الفرصة للصين لدعم الحكومات التي اقترضت بكثافة من البنوك الصينية من أجل تمويل مشاريع البنية التحتية لسداد قروضها دون الحاجة للبحث عن الدولار. كما أنّ خطوط المبادلة تساعد أيضاً في معالجة المشكلات التي أدّت إلى وقوع هذه الدول في المآزق المالية في المقام الأول.
إنّ أثر اتفاقات التبادل الصينية في بلدان إفريقيا ومجمل الجنوب العالمي يمكن فهمها بكلمات كيفين غالاغر، مدير مركز سياسات التنمية الدولية في جامعة بوسطن، الذي شرح الفرق بين «شبكة الأمان المالي العالمي GFSN» الغربية التي تعتمد على خطوط المبادلة الأمريكية وبرامج صندوق النقد الدولي، وخطوط المبادلة الصينية، قائلاً، «لا أحد يريد الذهاب إلى صندوق النقد الدولي. تتحيّز برامج صندوق النقد الدولي إلى الحلفاء الجيوسياسيين للدول الغربية، وتشترط منحهم القروض بفرض برامج تقشف تزيد من حدة الفقر واللامساواة، ونادراً ما تعيد الاستقرار والنمو للبلد المقترض. لطالما كانت الصين من منتقدي سياسات صندوق النقد الدولي هذه. ففي الوقت الذي تعزز فيه خطوط المبادلة للبنك الاحتياطي الفدرالي الأمريكي اللا مساواة حيث يتمّ تقديم معظمها إلى الأسواق ذات الدخل المرتفع، تقدّم خطوط المبادلة الصينية بديلاً عن برامج صندوق النقد الدولي غير الجذابة للكثير من الدول غير الثريّة».
إنّ شركاء إفريقيا من الاقتصادات الصاعدة «الصين وروسيا على رأس القائمة» يعطون الفرصة لدول القارة لتنويع سلّة صادراتها وتطوير مهارات العمالة والنمو الاقتصادي، حيث إنّ استثماراتهم في القارة لا تقتصر على الواردات الخام. وفقاً لورقة بحثية صادرة OECD في 2018: «ازدياد الأجور الحقيقية لقطاع التصنيع في الصين 14 مرة بين 1980 و2015، نفع شرق إفريقيا بدفع نموه 3.5٪ سنوياً بين 2013 و2016، حيث استثمر الصينيون في القارة في شركات التصنيع الكثيف وخلقوا المزيد من فرص العمل... يتماشى هذا مع تخصيص الصين 118 مليار دولار – 34٪ من تمويلها التنموي – لإفريقيا بين عامي 2000 و2014» ذكرت منظمة التعاون OECD أيضاً بأنّ «تحوّل الثروة، وإعادة التوازن التدريجي للثروة العالمية من دول منظمة التعاون والتنمية إلى الدول الأخرى»، قد تخطّى الـ 50٪ منذ عام 2010. وهذه العملية قد زادت من الروابط بين الاقتصادات الصاعدة والدول النامية، الأمر الذي يسرّع اندماج إفريقيا في الاقتصاد العالمي أكثر عبر تنويع شركائها».
ما بين 2007 و2020، قدّمت بنوك التنمية الصينية 23 مليار دولار لتمويل مشاريع البنية التحتية في بلدان ما دون الصحراء، وهذا أكثر من ضعف ما قدمته الولايات المتحدة وألمانيا واليابان وفرنسا، وأكبر من الذي قدمه البنك الدولي. كما أنّها تحوّلت من التركيز على البنية التحتية إلى المبادرات الموجهة نحو تعزيز الشراكات مثل تقوية التجارة والترابط. في بداية 2022، مثالاً، أعلنت الصين عن أوّل مبعوث خاص لها مسؤول عن المنطقة الشرقية من إفريقيا «القرن الإفريقي».

1136-5

المصادر:

Life or Debt: The Stranglehold of Neocolonialism and Africa’s Search for Alternatives - Tricontinental: Institute for Social Research

French imperialism is collapsing in West Africa - In Defence of Marxism

Defending Our Sovereignty: US Military Bases in Africa and the Future of African Unity - Tricontinental: Institute for Social Research

Africa’s Development Dynamics 2018

Getting currency swaps right how china is filling the void left by the west –True Sovereignty? The CFA Franc and French Influence in West and Central Africa - Harvard International Review

“Era of Coups” in Africa (Part 1): The Emergence of Russia and China amid the Decline of the West - International Information Network Analysis

Burkina Faso marks official end of French military operations on its soil – Reuters

معلومات إضافية

العدد رقم:
1136
آخر تعديل على الإثنين, 21 آب/أغسطس 2023 00:07