الـ«بدون» في الخليج
بيَّنّا في مقال سابق أن دول الخليج العربي الملكية والأميرية والسلطانية تتشابه في أمور كثيرة سواء في تركيبة أنظمة الحكم أم في غياب الحياة السياسية كليا أم في سمات هياكلها الاقتصادية التي تتسم بالريعية باعتبار أن استخراج النفط وتصديره يشكل العمود الفقري لمداخيلها أم بمشاكلها المتعددة من غياب للحريات الديمقراطية فيها و وجود وانتشار الفقر والبطالة ورغم غناها الفاقع فإنك تستطيع أن تشاهد بيوت الصفيح ممتلئة بساكنيها في الصحراء الحارقة، وهؤلاء غير مخدَّمين لا ماء ولا كهرباء ولا شيء يدل على أنهم يعيشون في بلاد فاحشة الثراء، وإضافة لكل ذلك هناك تشابه من نوع غريب يسم مجتمعات الخليج ويشكل مشكلة سياسية واجتماعية وأخلاقية اسمها البدون! وهذه المشكلة متفاقمة في الكويت بشكل مأساوي نظرا لحجمهم الكبير إذ يبلغ حوالي 120,000 مائة وعشرين الفاً وأعدادهم في الدول الاخرى غير محددة ولكنهم بعشرات الآلاف في السعودية و 30,000 ألفاً في الامارات وعدة آلاف في قطر.
والبدون أو غير محددي الجنسية أو أهل البادية أو القبائل النازحة أو المقيمون بصورة غير شرعية، هم فئة سكانية تعيش في دول الخليج لا تمتلك أية جنسية أو أية وثيقة تدل على أنهم مواطنون، وإذا كان الحديث الشريف يقول « لا فضل لعربي على أعجمي ولا أبيض على أسود إلا في التقوى » و « كل المسلم على المسلم حرام دمه وماله وعرضه »وهذا يعني حقه الكامل في الحياة الحرة الكريمة، فإنه يمكن القول عن البدون إنهم الأحياء الأموات في الوقت نفسه، لأنهم بحياتهم «بدون» غير معترف بمواطنتهم، وبمماتهم «بدون» يعانون الأمرين في ترحيل أمواتهم، والغريب أن معظمهم هم من مكونات شعوب دول الخليج نفسها، بعضهم من القبائل الرحل والتي كانت تتنقل بين أراضي هذه الدول بل وقبل اكتشاف النفط فيها، والكثير منهم كانوا يخدمون في سلكي الجيش والشرطة في الكويت قبل إقدام العراق على غزوه ثم بدأت معاناتهم ومآسيهم بعد عام 1986، وتعتبر قضية البدون من القضايا المؤثرة بشكل كبير على سجل الكويت في حقوق الإنسان وما ينطبق على الكويت ينطبق على واقع البدون في دول الخليج الأخرى حرفياً.
لمحة عن الواقع المزري
والمأساوي لحياة البدون
حدث ولا حرج عن المآسي غير الإنسانية وغير الأخلاقية التي يعاني منها البدون في الخليج، فهم بقوة القانون يمنعون عند المرض من العلاج لا في مشافي الدولة فقط بل في المشافي الخاصة أيضاً، ومن حيث الإقبال على التعليم فإن أولادهم وبناتهم أميون وجهلة بسبب منعهم من الدراسة في جميع المراحل التعليمية، وفي الكويت وحدها هناك 50000 خمسون الف طفل منهم، ويمنع البدون من العمل بجميع مرافق الدولة وكل من يشغلهم يعاقب بالحبس، مما أدى لانتشار الفقر بينهم و يمنع القضاة من إجراء عقد زواج أي بدون سواء ذكراً كان أو أنثى، وممنوعون من قيادة السيارات وحتى لو كان العسكري البدون قائداً لدبابة في الجيش فإنه لا يسمح له بقيادة سيارة مدنية ولا يوجد أي قانون يسمح للبدون بحيازة إجازة قيادة سيارة أو تسجيل سيارة بأسمائهم، ومحرومون من حق المواطنة ومن منحهم الهوية الشخصية أو أية وثيقة تثبت شخصيتهم، ومن الحصول على شهادة الميلاد وما يترتب عليها من عدم تطعيم للمواليد ومن حق السكن ومن حق التنقل كالسفر، ومحرومون من الحصول على شهادة وفاة وهو بمثابة حرمان من الموت حيث لا يمكن القيام بأية إجراءات خاصة بالمتوفى كحصر إرثه وغيرها دون صدور شهادة الوفاة باختصار إنهم لا شيء !! .
وقد ابتدعت السلطات الكويتية ما يسمى بالقيد الأمني الذي يشكل أبرز وأشد وسائل التضييق ضراوة، وهو استخدام إجراءات ابتدعته لجنة البدون تم من خلاله وضع قيود أمنية عليهم لا مبرر ولا سند قانوني لها، أو تعتمد على تحريات غير جدية. فعلى سبيل المثال لو تزوجت فتاة بدون من شخص خليجي أو عربي فإن اللجنة تقوم مباشرة بوضع جنسية زوجها على أساس أنها جنسية جميع أقاربها ممن يرتبطون بها حتى الاسم الرابع، بل إنه يتم إجبارهم على استخراج تلك الجنسية ويحدث ذات الإجراء لو استخرج شخص بدون جنسية معينة أو هاجر إلى بلد عربي فإن اللجنة تعتمد تلك الجنسية لكل من يمت له بصلة قرابة وتطالبهم الانتساب لها، ولو كانت تلك القيود الأمنية صحيحة وقانونية وتعتمد على تحريات جدية لأحالت أصحابها إلى القضاء وهذا لم يحدث ومن المضحك المبكي معا قصة اللاعب الدولي في منتخب الكويت لكرة القدم محمد العنزي حيث يمنح جواز سفر عند سفره مع المنتخب للعب خارج الكويت ويسحب منه عندما يعود الى أرض الوطن، وهذا ينطبق على الكثير من الرياضيين المتفوقين في السعودية وغيرها، أما في قطر فإنه في الفترة الأخيرة زادت أوجاعهم خصوصاً بعد زيادة مبالغ تجديد الوثائق مثل بطاقة تصريح الإقامة، ووثيقة السفر،و البطاقة الشخصية والصحية إلى ما يقارب 3000 ريال قطري حوالي 42000 ليرة سورية لكل فرد من البدون عليه أن يدفع هذا المبلغ كل سنتين وإلا يطرد من الدولة.
ما هي تعقيدات المشكلة مستقبلا ؟
من الواضح أنه لا يوجد تصور جدي لدى الحكومة لحل المشكلة أو حتى التخفيف من تداعياتها فقد استمرت الحكومة في محاولاتها إنجاح سياستها التشددية بتشجيع البدون على الحصول على جوازات مزورة لدول لم يسمعوا بها في حياتهم، بل إن لجنة البدون كانت تضع إعلانات في مقرها حول مكاتب شجعتها الحكومة لبيع تلك الجوازات المزورة دون تقدير لعواقب تلك الإجراءات .
فماذا سيحدث بعد انتهاء مدة صلاحية تلك الجوازات المزورة التي شجعت اللجنة على شرائها وقد حاولت إحدى السيدات في السعودية التي أحبطت ولمدة 26 عاما وهي تحاول أن تستعيد الجنسية السعودية ودفعت دفعاً من السلطات التي كانت تراجعها في أن تذهب إلى السفارات علها تجد سفارة تمنحها الجنسية لكن دون جدوى وحتى السفارة اليمنية رفضتها !.
ما هي الحلول؟
هناك العديد من الحلول التي أسهمت بوضعها واقترحتها بعض من الجهات الحكومية وجمعيات حقوق الانسان « السعودية » مثلاً، ولكنها كلها لا تحل المشكلة حلاً جذرياً بل حلولاً انتقائية تقضي في نهاية الامر الى منح بعض البدون الجنسية تحت شروط مجحفة جدا وقاصرة في أغلب الأحيان، فمن لديه وثائق إقامة أو ولادة أو توظيف سابقة او جواز سفر يمكن النظر في وضعه، أما الآخرون وهم الغالبية العظمى فسيبقون على حالهم، في حين أن الحل الجذري هو اعتبار البدون مواطنين خليجيين يعيشون في دول تابعة لمجلس التعاون الخليجي، وبالتالي منحهم الجنسية سواء كانوا سعوديين مقيمين في الكويت أو كويتيين مقيمين في الامارات وهكذا بحيث يتم إنهاء المعاناة الإنسانية بصورة عاجلة لهم، وأخيرا نقول إنه قد يعتقد الكثيرون بأن شعوب دول الخليج تعيش حياة حرة كريمة ولكن هذا ليس صحيحا لأن جزءاً منها تعيش عيشة التفرقة والتمييز وعدم المساواة والحرمان من حق المواطنة والاعتقال التعسفي وعدم احترام الملكية الخاصة وعدم المساواة أمام العدالة وإضافة لكل هذه المعاناة التي لا تطاق يعانون أيضا وبشكل فاقع من غياب العدالة في توزيع الثروة في بلاد متخمة بالثروات سواء النفط أو الذهب في «السعودية» أو اللؤلؤ في الخليج، وأضحى دخلها الآن من السياحة الدينية والثقافية والترفيهية يشكل مبالغ ضخمة لا تعد ولا تحصى، وإذا كانت أنظمة الخليج مستقرة ومتضامنة مع بعضها كما حدث في البحرين والتدخل السافر الذي قامت به السعودية بقرار من مجلس التعاون الخليجي بفعل القبضة الحديدية التي تقبض على زمام السلطة فيها، فإن هذا الوضع بدأ بالتلاشي ولم تعد هذه الانظمة ملقحة ضد الثورات الاجتماعية والتحركات الجماهيرية وعدم الاستقرار كما يجري الآن في البحرين وفي الكويت وبداية التحركات الجماهيرية في المنطقة الشرقية في السعودية، وفي التاريخ العربي دروس لو أخذ بها حكام الخليج لما احتاجوا لكل أجهزة الأمن التي تقوم بحماية عروشهم وقصة عنترة بن الشداد قصة مشهورة حين تعرضت قبيلته عبس للغزو فصرخ أبوه شداد سيد بني عبس في وجهه (وكان عبده حتى ذلك الحين) قائلا: كر يا عنترة، انتصر لقومك دافع عنهم، فقال عنترة: وأنى للعبد أن يكر فالعبد لا يكر ؟، فقال شداد قولته الشهيرة: كر وأنت حر، ولم يكن عنترة حينذاك غير عبد منسي، لا يعترف به شداد ابناً له، وما أن سمع عنترة هذا الفرمان الذي أعتق رقبته، حتى أبلى البطل الصنديد بلاءاً حسناً ورد الغزاة عن القبيلة أن من لا كرامة له في وطنه وبين أهله يبقى غير عابئ بالدفاع عن كرامة الوطن وكرامة أهله!.وهذا يثبته التاريخ.