النيجر… هل تحتاج الشعوب الإفريقية أسباباً إضافية للانتفاض على الغرب؟

النيجر… هل تحتاج الشعوب الإفريقية أسباباً إضافية للانتفاض على الغرب؟

ظلّت النيجر تحت الأضواء منذ الانقلاب الأخير، فرغم اشتعال نِقَاط كثيرة حول العالم، يبدو واضحاً أنّ تداعيات ما يجري لن تكون محصورة في حدود البلاد أو غرب إفريقيا فحسب، بل ستكون مؤثرة في أنحاء القارة، وهو ما سيؤثر بدوره على العالم كلّه، ونظراً لأن ساحة الصراع أصبحت ومنذ اللحظات الأولى ذات امتدادات إقليمية ودولية، ستقدّم النيجر اختباراً جديداً لتناسب القوى على المستوى العالمي.

التجاذب الذي اتضح على إثر الموقف من الانقلاب الذي قاده الجنرال عبد الرحمن تشياني قائد الحرس الرئاسي في النيجر أو ما رافق ذلك من محاولات تسويق الحل العسكري كطريقة للتعامل مع الانقلاب كان كافياً لكشف خطورة الموقف، وما الذي تعنيه خسارة النيجر من قبل الغرب واحتمال انتقالها إلى معسكر آخر أكثر استقلالية. فالخطوات الأولى للسلطة الانقلابية كشفت موقفاً معادياً لسياسات فرنسا والغرب الاستعمارية في إفريقيا، وهو ما يستغربه البعض، على افتراض قاصر يقول إن أي موقف معادٍ للغرب أو فرنسا لا يمكن أن يتطور بشكل طبيعي من قبل ملايين الشعوب المقهورة إلا إذا كانت موسكو أو بكين تحرّض بهذا الاتجاه! دون أن يقدم أصحاب هذا التصور جواباً عن الأسباب العميقة للقلق الغربي من انقلاب في بلد احتل المرتبة الرابعة في قائمة البلدان الأفقر في العالم! قلق فرض على الرئيس ماكرون أن يرأس يوم الأمس السبت 12 أب اجتماعاً أمنياً رفيع للتعامل مع التطورات في آخر قواعد فرنسا في غرب إفريقيا! ودون أن يجيب أصحاب هذا التصور عن طبيعة العلاقة بين فرنسا ومستعمراتها، وهو ما يبدو من المفيد تقديم مثال عليه من النيجر نفسها قبل الخوض في تفاصيل أخرى.

لدى شعب النيجر أسبابٌ كافية!

استقلت النيجر اسمياً عن فرنسا عام 1960 لكن العلاقات التي ظلّت قائمة بين البلدين رسخت بشدّة تبعية استعمارية مجحفة. ويعدّ استخراج اليورانيوم من قبل الشركات الفرنسية دليلاً دامغاً على ذلك. فتعتمد فرنسا على الطاقة النووية بنسبة كبيرة تصل إلى 70% وتقول التقديرات إن كل واحد من ثلاثة مصابيح في فرنسا تعمل على اليورانيوم المستورد من النيجر، إذا تزوّد الأخيرة فرنسا بـ 20% من واردات اليورانيوم، وتأتي الكميات الأساسية الأخرى 27% من كازاخستان و19% من أوزباكستان. لكن المثير حقاً بالنسبة للنيجر أنها وبالرغم من كونها سابع منتج عالمياً وتسهم بـ 5% من الإنتاج العالمي لهذا الخام الإستراتيجي إلا أنه لم يسهم في 2022 إلا بـ 1.2% من الميزانية العامة! وذلك نظراً للشروط المجحفة التي خضعت لها النيجر، فرغم كل التقلبات السياسية والانقلابات العديدة التي عاشتها البلاد، ظلّت علاقات التبعية لفرنسا الثابت الوحيد، وهو ما ساهم بشكل كبير ببقاء هذا البلد الإفريقي الغني بالثروات في قائمة أفقر دول القارة والعالم. ونظّم عملية استخراج اليورانيوم ثلاث اتفاقيات بين البلدين في 1961 و1986 والأخيرة في عام 2001 عدّ الأساسي فيها تثبيت أسعار نهب استعمارية تسمح لباريس بشراء اليورانيوم بأسعار رخيصة جداً مقارنة بسعره العالمي، وسمح النفوذ الكبير لفرنسا وشركاتها بالتلاعب بالعقود وبيانات الواردات التي سجلت أسعاراً أخفض بكثير من تلك التي كانت تحصل عليها، وظلّت الشركة الفرنسية تدفع لمدة زمنية طويلة ضريبة على أرباحها لا تتجاوز 5.5% للنيجر في الوقت الذي كانت تدفع فيه ضريبة تصل إلى 15.5% لكازخستان و13% لكندا. وفي المقابل قدّمت الأنظمة السياسية التابعة كل التسهيلات للمستعمر لنهب هذه الثروات، فتحصل فرنسا على تسهيلات ضريبية وإعفاءات جمركية سواء مقابل المعدات والآلات وقطع الغيار التي تدخل البلاد لمصلحة شركاتها، أو من خلال تخفيض الرسوم والضرائب، إذ تحصل الشركات الفرنسية العاملة في قطاع اليورانيوم على إعفاء بنسبة 20% من الضرائب المفروضة على الشركات في البلاد.

هذا النمط من «الشراكة» مع الغرب، كانت له آثار كارثية على سكان البلد الذي تغيب الكهرباء عن 80% من مناطقه الريفية، بالإضافة إلى أن الشركات الفرنسية التي عملت باليورانيوم لم تراعِ الحد الأدنى من الشروط للحفاظ على صحة السكان، فبعد أن توقفت باريس عن استخراج اليورانيوم من أراضيها بسبب الأضرار التي ستلحق بالبيئة والسكان، كانت النيجر مكباً للنفايات النووية التي تترك في الهواء الطلق وتتسرب إلى المياه الجوفية والأراضي الزراعية ما يسبب الأمراض القاتلة للسكان الذين يفتقدون أبسط شروط الحياة الكريمة وخصوصاً إذا ما علمنا أن اعتماد النيجر على الفرنك الإفريقي الذي يتداول في المستعمرات السابقة في وسط وغرب إفريقيا أعطى باريس إمكانات نهب إضافية هائلة، من خلال ربط قيمة الفرنك باليورو وفرض إبقاء 50% من احتياطات الدول التي تتعامل بهذه العملة في البنوك الفرنسية التي تتحول إلى فوائض مالية تحت تصرف باريس.
يشكّل ما سبق مثالاً بسيطاً على طبيعة علاقة فرنسا بمستعمراتها كما ذكرنا، ويقدّم تفسيراً لموقف الشعوب الإفريقية من فرنسا تحديداً وكافة الدول الاستعمارية الأخرى، ويفسر أيضاً التقارب الإفريقي مع دول الشرق الصاعدة، التي قدّمت للدول الإفريقية عقود استثمار وتنمية أفضل وأملاً ببناء شراكات حقيقية تضمن المنفعة المتبادلة للطرفين ليكون بذلك خطوة إستراتيجية لإلغاء العلاقات الاستعمارية التي فرضت على بلدان إفريقيا لعقود طويلة. هذا بالإضافة إلى المكانة التي ورثتها روسيا عن الاتحاد السوفيتي في ذاكرة الشعوب الإفريقية،

نحو واقع جديد

ما سبق يفسر جزئياً التشنج الغربي من أي تغيير غير مضمون في النيجر تحديداً، فالموضوع لا ينحصر بأرباح اقتصادية لفرنسا وشركاتها، بل يرتبط بشكل فعلي بطبيعة الدور السياسي الذي أداه الغرب على المستوى العالمي الذي لم يكن من الممكن الحفاظ عليه إلّا عبر هذا النمط من السيطرة ومعدلات النهب المرتفعة للدول المنتجة للخامات، ويمكن أن يكون لما يجر في النيجر تأثير أحجار الدومينو في كثير من المسائل، فالسؤال الأول المطروح يرتبط بمستقبل الطاقة في فرنسا، وما الذي يمكن أن يعنيه ذلك على سوق الطاقة في أوروبا كلها خصوصاً كون باريس قد أسهمت عبر صادراتها من الكهرباء أن تعوض النقص الحاد للطاقة في أوروبا، فالتغيرات الكبرى التي شهدتها الأسواق منذ بدء الحرب في أوكرانيا ظلّت ضمن حدود يمكن احتواؤها لكن الشتاء القادم يمكن أن يفرض شروطاً جديدة. فبعد أن يتضح حجم آثار ما يجري في النيجر على إنتاج الطاقة في فرنسا سنكون أمام معطيات جديدة ترتبط تحديداً بقدرة أوروبا على الاستمرار باتباع السياسة الأمريكية. فالمهم في المسألة هو التداعيات السياسية المترتبة على كل ذلك، فطرد فرنسا والولايات المتحدة من النيجر إن حصل فعلاً سيكون بمثابة ضربة حادة للوجود الاستعماري في غرب إفريقيا، وهو ما يصب في مصلحة الطموح الإفريقي بتحقيق تنمية مستدامة بشكل مترافق مع أداء دور أكبر على الساحة الدولية يعبر من خلاله عن مصالح شعوبها المغيبة لقرون، ويسهم في تدعيم جبهة عالمية ناشئة ترفض العالم القديم وتسعى إلى ترسيخ واقع وقواعد جديدة.

هل يبقى كل ذلك دون رد؟

إن ظلّت التطورات تسير في هذا الاتجاه فسيكون ذلك بمثابة اكتمال عنصر جديد وأساسي من العناصر اللازمة لإنهاء شكل العالم القديم، ومن هنا تحديداً سيكون الغرب وواشنطن مضطرين للدفاع عن مواقعهم المتقدمة هناك قبل خسارتها إلى الأبد، وهو ما يجعل توقع رد غربي احتمالاً وارداً، لكن الغربيين متورطون على جبهات أخرى في الوقت نفسه ويبدو أنهم غير قادرين على حشد قوى كافية في جبهة جديدة في إفريقيا وخصوصاً أن معركة هناك في هذه اللحظة ستتحول حتماً إلى حرب بالوكالة وأعلنت دول متعددة أنها ستكون طرفاً مباشراً في أي صدام في الإقليم، فالخيار الغربي التقليدي كان اللجوء إلى المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا «إيكواس» التي سبق لها أن تدخلت عسكرياً في عدد من الدول، لكن المجموعة انقسمت حول المسألة واتضح أن الدول المنضوية فيها غير قادرة في هذه اللحظة على حشد القوى اللازمة لهذه المعركة، فرغم أن عدداً من دولها أعلن استعداده للمعركة إلا أن اجتماع قادة أركان هذه الدول الذي كان يفترض أن يعقد يوم السبت 12 أب الجاري تم تأجيله «لأسباب فنية» ما يعطي مؤشراً جديد أن قوى الدول لا تزال غير كافية، فالرئيس النيجري الذي كان أكثر المتحمسين لهذه الخطوة لم يحصل على موافقة مجلس الشيوخ لخوض معركة كهذه، وخصوصاً أن 30 ولاية من أصل 36 ولاية في نيجيريا تخوض معارك داخلية ولا يمكن الاستغناء عن القوات المنتشرة في هذه الولايات. فالمعلومات القادمة من غرب إفريقيا تشير بوضوح إلى أن إمكانية المضي في الخيار العسكري الذي تتمناه فرنسا أو الولايات المتحدة غير ممكن حالياً ولا يمكن التعويل على أي تحرك عسكري دون دعم بالعتاد والقوات أو انخراط مباشر من قبل الغرب، وهو ما يبدو خياراً صعباً في هذه اللحظة.

العقوبات مخرج أوّلي

التحضيرات لعمل عسكري قد تستغرق وقتاً طويلاً إن حصل، لذلك كان الخيار الأولي والسريع هو اللجوء إلى العقوبات كان أبرزها الحزمة التي فرضتها «إيكواس» وعلّقت بموجبها المساعدات المالية وجمّدت أصول الدولة وقادة الانقلاب وعائلاتهم وأي شخص يوافق على المشاركة في المؤسسات الدولة التي يجري إنشاؤها أو إدارتها من قبل السلطات الانقلابية كما أغلقت بعض هذه الدول حدودها مع النيجر وأوقفت كافة المعاملات التجارية والمالية معها، وفي فرنسا اتخذت قرارات مشابهة مثل «تعليق جميع الإجراءات الخاصة بالمساعدات التنموية التي تقدمها للنيجر» و«تعليق ما يخص دعم ميزانية الدولة الواقعة غرب إفريقيا» وذلك حسب بيان من الخارجية الفرنسية. كل ذلك سيسهم بممارسة ضغط كبير على النيجر في هذه اللحظات الحساسة وإن كان سيشكل ضغطاً على السلطات الانقلابية دون شك، لكنه سيزيد من حالة الاستياء الشعبي ضد «إيكواس» وفرنسا التي تعرضت سفارتها لهجوم من متظاهرين رفعوا شعارات «تسقط فرنسا».

السياق الذي تتطور فيه الأحداث على المستوى العالمي سياق واحد فيه عناصر ثابتة، وهي تراجع غربي مستمر على وقع ضربات من كل الاتجاهات، لا يعني ذلك أن قوى الغرب عاجزة عن توجيه ضربات في المقابل لكن التجربة الملموسة تثبت أنها لم تعد قادرة على تغيير مجرى الأحداث بالشكل الذي يلائمها، ومن هنا يمكن لمراقبة الوضع في النيجر أن تقدم دليلاً جديداً لإثبات أو نفي هذه الفكرة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1135