قمة روسيا- إفريقيا هل انتهى عصر «الصَدَقات»؟

قمة روسيا- إفريقيا هل انتهى عصر «الصَدَقات»؟

اختتمت أعمال القمة الروسية الإفريقية الثانية التي عقدت في سان بطرسبورغ خلال يومي 27 و28 من شهر تموز الجاري، وتحظى هذه القمة بالكثير من الاهتمام في إفريقيا والعالم، وذلك لأن تطوير علاقات إستراتيجية حقيقية راسخة بين روسيا والدول الإفريقية سيكون له تأثير ملموس على عدد من المسائل المحورية على المستوى العالمي.

دعت روسيا في عام 2019 لعقد أعمال القمة الأولى، التي شكّلت في حينه نقطة علام جديدة في تاريخ العلاقات الروسية-الإفريقية، ولا يمكننا إلا الاعتراف بأن هذه العلاقات شهدت بالفعل تطوراً ملموساً في عدد من المسائل، وخصوصاً منذ بدء الحرب في أوكرانيا، فعلى الرغم من الضغوط الغربية الشديدة التي فرضت على الدول الإفريقية إلا أنهم ظلّوا مصرّين على اتخاذ موقف محايد في هذا الصراع وحاولوا تقديم مبادرات متعددة لوقف الحرب وذلك دون أن يتورطوا بفخ العقوبات الغربية، التي أثبتت التجربة أنها كانت عامل ضغط لا على الطرف المستهدف فحسب، بل على أولئك الذين اعتمدوا هذه السياسيات.

ملاحظات حول الضغوط الغربية

موقف إفريقيا من الصراع في أوكرانيا كان له تبعات بلا شك، فواشنطن حاولت ممارسة ضغوط كبرى لدفع الجميع لتبني سياساتها بغض النظر عن مدى تقاطع هذه السياسات مع مصالح الدول الأخرى، ومن هذه الزاوية اعتبرت النسخة الثانية من قمة روسيا - إفريقيا بمثابة اختبار لفاعلية «ضغوط واشنطن»، وفي هذه المسألة بالتحديد يمكن تسجيل بعض الاستنتاجات الأولية، أولها، أن 49 دولة من أصل 54 دولة قبلت الدعوة إلى المشاركة، وهي نسبة مرتفعة جداً تعكس تقدير الدول المشاركة لأهمية بناء علاقات من هذا النوع مع روسيا أو دول أخرى من دول الشرق، لكن ضعف تمثيل بعض الدول المشاركة الذي كان في مستوى وزراء أو سفراء دفع البعض للخروج باستنتاجات متسرعة مفادها أن الدول الإفريقية لا تزال خاضعة للهيمنة الغربية والأمريكية، وليست جادة في تطوير علاقاتها مع الشرق على حساب الدول الغربية، وهي مسألة ينبغي التوقف عندها. إذ صرّح مسؤولون روس وأشاروا إلى أن ضغوطاً مكشوفة مورست على عدد من الدول، وخص المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف الولايات المتحدة وفرنسا عند الحديث حول هذه المسألة، وقال في إجاباته عن أسئلة الصحفيين، أن كلتا الدولتين ودولاً أخرى «حاولوا من خلال بعثاتهم الدبلوماسية في الدول الإفريقية الضغط على قيادة هذه الدول من أجل منع مشاركتها في القمة»، لكن وبالرغم من ذلك جرى تمثيل 27 دولة على مستوى رؤساء، أو نواب الرئيس، أو رؤساء حكومات. منهم دول كبرى وبارزة مثل مصر وجنوب إفريقيا وإثيوبيا، في الوقت الذي لجأت بعض الدول إلى تخفيض تمثيلها بالفعل، لكن سير القمة والتصريحات التي أطلقت في خلالها دلّت على أن ممثلي الدول الـ 49 تمتعوا بصلاحيات كافية للتوقيع على البيان الختامي الذي يعكس توافقاً روسياً إفريقياً حول عدد من المسائل الكبرى في العالم، هذا بالإضافة إلى أن المشاركين أعلنوا اعتمادهم خطة العمل المشتركة حتى عام 2026 ما يؤكد مجدداً أنه تم الاتفاق بالفعل على خطوات ملموسة في تطوير العلاقات بين الدول الإفريقية من جهة وروسيا من جهة أخرى، وجرى تثبيت الميادين التي سيشملها هذا التطوير.

وفي السياق نفسه أشار مساعد الرئيس الروسي للشؤون الدولية، يوري أوشاكوف، إلى أن منظمات إقليمية رائدة كانت حاضرة في القمة، وجرى تمثيلها على أعلى المستويات، وهو ما يعتبر مسألة مهمة نظراً لطبيعة عمل هذه المنظمات التي تدار بشكل مشترك من الدول الإفريقية وتختص بقضايا متنوعة، مثل الاتحاد الإفريقي، ومجموعة شرق إفريقيا، ومنظمة السوق المشتركة لشرق وجنوب إفريقيا واتحاد المغرب العربي وغيرها من المنظمات.

عن ماذا يجري الحديث؟

مجالات التعاون المشترك المتاحة متنوعة وعديدة بلا شك، فقطاع الطاقة أخذ حيزاً كبيراً من الاهتمام، إذ ترغب عدد من الدول الإفريقية بزيادة التعاون مع روسيا في مجال التنقيب واستخراج الطاقة الأحفورية، وتأمل هذه الدول الاستفادة من خبرات روسيا في هذا المجال، بالإضافة إلى أن ذلك يمكن أن يفتح مجالاً واسعاً للتطوير التكنولوجي في هذه الصناعة، ويجري الحديث عن تطوير مجالات استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية أيضاً. وفي هذا السياق أشارت وكالة «ستاندرد آند بورز غلوبال» الأمريكية، إلى أن صادرات المشتقات النفطية تضاعفت بمقدار 14 مرة منذ بداية الحرب في أوكرانيا وحتى الربع الأول من 2023 ما يدل على أن أفق تطوير قطاع الطاقة لا يزال مفتوحاً ويحمل إمكانيات كبرى في كل مفاصله.

من جانب آخر، تعتبر روسيا من موردي الأسلحة الأهم بالنسبة للدول الإفريقية التي يعاني معظمها من ظروف داخلية غير مستقرة وتصاعد مخاطر الجماعات الإرهابية التي عملت بشكل واضح في منطقة الساحل الإفريقي، وأصبحت مصدر تهديد كبير، وتعترف مجموعة من دول القارة أن المساعدة التي قدمتها روسيا في مجال الأمن والتدريب لعبت دوراً كبيراً في سياق حل هذه المشكلات، ما ساهم في بناء علاقات متينة في مجالات الأمن والتسليح، ويشار إلى أن روسيا وقّعت اتفاقيات تعاون عسكري من أكثر من 19 دولة إفريقية في خلال العقد الماضي.

وإلى جانب ميادين التعاون هذه، يبدو أن حاجة إفريقيا للتطوير التكنولوجي في عدد من المجالات يحتاج دولاً مثل روسيا، التي ترى أن تقديم المساعدة اللازمة يمكن أن يسهم في تعظيم استفادة الدول الإفريقية من مواردها الاقتصادية والطبيعية ويسهم بالتالي بزيادة مستوى الاستقرار السياسي والاجتماعي هناك.

الأمن الغذائي!

المشكلة الأكبر التي تعاني منها القارة الإفريقية هي تأمين الغذاء الضروري وخاصة أن الزراعة في هذه البلدان لا تزال في معظمها أقل من المستوى المطلوب. ومن جهة أخرى ربط البعض انسحاب روسيا من اتفاقية الحبوب بآثار خطيرة على حاجة إفريقيا من الحبوب، وهو ما يجري تناوله في عدد من المستويات، الأول يدعي بأن إفريقيا كانت تعتمد على هذه الاتفاقية في تأمين احتياجاتها، وهو ما جرى تفنيده، إذ لم تحصل هذه الدول إلا على 3% من إجمالي الحبوب التي جرى نقلها بموجب الاتفاقية، أما المشكلة الأخرى التي يمكن أن تؤثر على هذه الدول، ترتبط بارتفاع الأسعار المتأثرة بالتقلبات الحاصلة في سوق الحبوب العالمي، لكن روسيا حرصت في هذه القمة على إرسال تطمينات في هذا الخصوص. إذ أشارت موسكو إلى استعدادها لتأمين الطلب على الحبوب بدلاً من أوكرانيا، وأعلنت أنها مستعدة لتوريد هذه الشحنات بأسعار تفضيلية هذا بالإضافة إلى إعلان رسمي عن نقل شحنات مجانية من الحبوب لعدد من الدول. وذلك إلى جانب دراسة إمكانية تطوير صناعة الأسمدة في الدول الإفريقية التي ضاعفت واردتها من الأسمدة الروسية في السنوات الخمس الماضية. وربما يلعب إعلان روسيا عن استعدادها لاعتماد العملات المحلية في التجارة البينية عاملاً محفزاً في زيادة التبادل التجاري بشكل عام.

ربما يكون أهم ما حققته هذه القمة إلى جانب ما ذكر سابقاً، هو التناغم الواضح في مواقف المشاركين فيها من الدور السلبي الذي لعبته الدول الغربية والاستعمارية في إفريقيا، وضرورة التصدي المشترك لآثار تلك العقود واسترداد ما يمكن استرداده من الثروات المنهوبة، إلى جانب موقف موحد حول ضرورة رفض العقوبات الأحادية وإيجاد مخارج منها. يعلن قادة الدول الإفريقية اليوم أن موقفهم من روسيا يختلف جذرياً عن موقفهم من الغرب وتحديداً بسبب تاريخٍ طويل لعب فيه الاتحاد السوفيتي دوراً كبيراً في دعم استقلال القارة، ما دعّم موقف روسيا اليوم في ذاكرة شعوب تلك الدول. بالرغم من أن الأنظمة القائمة في إفريقيا لا تعبّر في معظمها عن تطلعات شعوبها المفقرة، إلا أن الاتجاه العام الذي يجري ضمنه بناء العلاقات الخارجية يلاقي قبولاً شعبياً واسعاً ويعتبر في الوقت نفسه تعبيراً عن شكلٍ مختلف من العلاقات الدولية القائمة على المنفعة المتبادلة، فكلمات الرئيس الروسي في اختتام أعمال القمة، والتي قال فيها إن «الدول الإفريقية لا تطلب صدقات من روسيا بل تحاول إيجاد مشاريع مقبولة للطرفين» لا يجري توجيهها لقادة هذه الدول فحسب، بل لمئات الملايين من الأفارقة الذين عانوا كثيراً من التهميش والنهب وفرض عليهم أخذ ثرواتهم المنهوبة كـ «صدقات» من الدول الغربية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1133