قمّة الناتو والضرائب الباهظة على «أصدقاء واشنطن»!
مع اختتام أعمال القمة الاستثنائية لدول حلف شمال الأطلسي، التي عقدت في فيلنيوس في ليتوانيا، ظهرت جملة من المسائل على السطح مجدداً، مسائل ذات أهمية كبرى لفهم الاتجاه العام في التطورات السياسية العالمية، ومستقبل أوروبا بالتحديد، وتضاف إليها أسئلة حول معنى السلوك التركي في القمة وما بعدها، ومصير أوكرانيا التي لم تحصل على موقف واضح حول انضمامها إلى الحلف.
منذ دخول روسيا عسكرياً وبشكلٍ مباشر على خط المواجهة في أوكرانيا في شباط 2022 أخذت التطورات السياسية تتسارع لا في الساحة الأوروبية فحسب، بل على مستوى العالم، فالحرب في أوكرانيا كما بات واضحاً، ليست «حدثاً إقليمياً» كما يحاول البعض تصويرها، بل نقطة علّام لتطورات نوعية واسعة النطاق. ويمكن القول: إن «المعضلة الأوكرانية» تشكّل عامل ضغط كبير على «حلف الناتو» الذي كان يعاني بالفعل من مشاكل سياسية جدية منذ سنوات، لتتحول مسألة صياغة موقف موحد للتعامل مع أوكرانيا، أو غيرها، مسألة في غاية التعقيد.
هل يمكن ضم أوكرانيا؟
ترى أوكرانيا أن انضمامها للحلف مسألة ضرورية وتدفع باتجاهه، ولا يوفّر السياسيون الأوكران أي فرصة للحديث عن أهمية هذه الخطوة بالنسبة لهم، لكن الفكرة هذه- التي استوحتها أوكرانيا من قوى غربية حرّضت بهذا الاتجاه تاريخياً- ليست محط إجماع، وخصوصاً بعد إعلان روسيا عمّا أسمته «عملية عسكرية خاصة في أوكرانيا». ففي البداية تفرض شروط الحلف ألا يكون البلد- حين تقديم طلب الانضمام- في حالة حرب، أو في حالة عدم استقرار داخلي، وبالرغم من أنّ إمكانية تجاوز هذه الشروط ممكنة، في حال توافقت حولها الدول الأعضاء، إلا أن الولايات المتحدة ترى أن انضمام أوكرانيا إلى الحلف لن يكون في صالح واشنطن، إذ سيكون الحلف أمام احتمالين: إما العمل بالمادة الخامسة التي تفرض على «الناتو» الدفاع عن العضو الجديد، ما يعني انخراطاً أميركياً مباشراً في مواجهة مع روسيا، ودفع كل دول الحلف لإعلان حالة الحرب معها، ما يهدد بتحويل الصراع الحالي إلى حرب عالمية حقيقية. أما الاحتمال الآخر فهو: أن يجد الحلف مخرجاً يعفيه من تفعيل المادة الخامسة، ليظهر بذلك بموقع الضعيف ويقوض ثقة الدول الأعضاء في قدرة الناتو على الدفاع عن أيٍ منهم، ما سيعطي زخماً جديداً لفكرة أوروبية يجري ترديدها منذ سنوات، تقول بضرورة إيجاد «بديل أوروبي» لهذا التحالف، ما يعني تحطيم واحد من أهم أركان تبعيّة الدول الأوروبية لواشنطن.
خيار واشنطن الأنسب
الولايات المتحدة حَرِصت حتى اللحظة على تحويل أوكرانيا إلى ساحة لاستنزاف كل الدول الأوروبية، لا روسيا وحدها. فالمطلوب أمريكياً، نقل كل السلاح الموجود في المخازن الأوروبية إلى أيدي القوات الأوكرانية حتى وإن شكّل ذلك تهديداً لأمن تلك الدول، وستضطر روسيا لذلك أن تتعامل مع كميات هائلة من الأسلحة التي يتم نقلها يومياً إلى أوكرانيا من الولايات المتحدة والدول الأوروبية، وهو ما تأمل واشنطن من خلاله أن تستنزف قدرات روسيا أيضاً. لذلك يكون وجود أوكرانيا خارج حلف الناتو أكثر فائدة بالنسبة لواشنطن اليوم، فالحلف ينخرط بشكل مكشوف في قيادة العمليات العسكرية هناك، ويقدم كل أنواع الدعم الممكنة، ويستعد لتقديم المزيد من التعهدات بإمدادات جديدة. طالما لا يؤدي ذلك إلى دفع واشنطن إلى وسط ساحة القتال إذ ستتلقى الضربات هناك بشكل مباشر.
ما يدعم هذا التوجه هو إعلان الرئيس البولندي أندريه دودا، أن بلاده ستعمل كضامن لأمن أوكرانيا إلى جانب رومانيا، إذ صرّح دودا لصحيفة «بيلد» الألمانية: إنّ السلطات البولندية قد تنظر في احتمال إرسال قواتها إلى أوكرانيا على شكل قوات «حفظ السلام». وفي زيارته إلى مدينة لوتسك في غرب أوكرانيا يوم الأحد 9 تموز، قال الرئيس البولندي لنظيره الأوكراني: «نحن أقوى معاً» ليشير رئيس الإدارة الرئاسية الأوكرانية أندريه يرماك في وقت لاحق من هذه الزيارة إلى أن «أوكرانيا وبولندا معاً، متحدتان في النضال ضد عدو مشترك». يعتبر دفع دول جديدة للانخراط إلى جانب أوكرانيا مسألة ضرورية بالنسبة للولايات المتحدة، إذ لا تبدو الأمور على الجبهة في أوكرانيا بصورة جيدة، وقد ينقلب السحر على الساحر في أيّة لحظة، فخيار واشنطن لا يزال يعتمد على دفع الأمور باتجاه أقصى تصعيد ممكن، وتوريط أكبر عدد ممكن من «حلفائها» في هذا الصراع.
قرارات تركية «مفاجئة»!
رغم أن خيار انضمام أوكرانيا ظلّ معلقاً ولم يوضع له جدول زمني واضح، يبدو أن قمة «فيلنيوس» خطت خطوة باتجاه قبول طلب السويد للانضمام إلى الحلف، إذ أبدت كلاً من تركيا وهنغاريا قبولاً أولياً بعد معارضة دامت شهوراً طويلة، ويفترض أن يصادق البرلمان في كلا الدولتين على هذا القرار قبل اعتماده بشكلٍ رسمي. الخطوة التي طال انتظارها غربياً تحتاج المزيد من الوقت، فالبرلمان التركي مثلاً لم يُعقد بعد، ولن تبدأ جلساته قبل شهر تشرين الأول القادم. لكن المثير للاهتمام في هذا التطور كان الموقف التركي، الذي أعطى جائزة للغرب وساعد واشنطن- حسب وصف البعض- في زيادة الضغط على روسيا، وخصوصاً أن الخطوة التركية هذه لم تكن الوحيدة، إذ أعلنت أنقرة إفراجها عن عدد من سجناء كتيبة آزوف المحتجزين على أراضيها، وهو ما اعتبرته موسكو على لسان المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف: «إخلالاً بالاتفاق الذي تم التوصل له سابقاً». كل ذلك مهّد لعدد كبير من التحليلات التي تقول: إن «تركيا عادت إلى حضن الغرب بعد مناورة واسعة في السنوات السابقة» وقال الصحفي الأمريكي سيمور هيرش: إن تركيا أخذت ضمانات من واشنطن للحصول على قروض من البنك الدولي وتسهيلات مالية أخرى في حال موافقتها على انضمام السويد، وهو ما نفته أنقرة.
تركيا تحت الضغط
لا يمكن إنكار أن القرارات التركية الأخيرة أضرّت بروسيا، لكن لا ينبغي تضخيم حجم هذا الضرر، ولا ينبغي في الوقت نفسه تضخيم الموقف الروسي، فرغم أن التصريحات الرسمية الروسية لم ترحب في السلوك التركي الأخير، حتى أن رئيس لجنة الدفاع والأمن في مجلس الاتحاد الروسي فيكتور بونداريف، قال صراحة: إن «تركيا تتحول إلى دولة غير صديقة بعد اتخاذها سلسلة من القرارات الاستفزازية» لكن المتحدث باسم الكرملين ورغم موقفه الواضح من القرار التركي قال: «في سياق الاستعدادات لقمة الناتو، تعرضت تركيا لضغوط كبيرة، وأنقرة بصفتها عضواً في الحلف تظهر تضامنها مع الناتو، وروسيا تتفهم كل تلك الأمور جيداً».
كلمات بيسكوف هذه تضع الأمور في سياقها الطبيعي، وبعيداً عن التضخيم والتفسيرات المتسرعة، فتركيا عضو أساسي في حلف الناتو، الذي يعتمد عليها في عدد من المسائل الاستراتيجية والعسكرية، وروسيا تدرك ذلك جيداً، ولم تكن هناك أوهام بأن تستغني تركيا عن موقعها هذا في الآجال القريبة، وبالتالي، لا يمكن النظر إلى تركيا بعيداً عن كونها دولة من دول الناتو. ومن هنا بالتحديد تكتسب العلاقة مع روسيا، أو التحولات التي عاشتها تركيا في السنوات الماضية أهمية خاصة، فالعلاقات الروسية- التركية التي تتطور بشكلٍ مستمر رغم كل العقبات كانت خرقاً لم يكن ممكن تصديقه قبل بضعة سنوات، ويمكن أن يكون بداية لمواقف دول غربية أخرى مستقبلاً، وهو أيضاً تطور طبيعي في الموقف التركي، الذي يحاول التعامل مع الضغوط الكبرى، وفي الوقت نفسه يحاول تثبيت المصالح التركية كما يفهمها. الارتباط التركي الشديد مع المنظومة الغربية سيؤدي دوراً في تعقيد ومحاولة تكبيل الاستدارة التركية باتجاه الشرق، وبالرغم من أن منع هذه الاستدارة بشكلٍ تام أمرٌ في غاية الصعوبة إلا أنها لن تكون عملية يسيرة على الإطلاق.
«الضرائب الباهظة»
العلاقات مع واشنطن والمنظومة الغربية وتحديداً بعد انهيار الاتحاد السوفييتي كانت تهدف لضمان المصالح الأمريكية بشكلٍ أساسي، وبالتالي، ترى واشنطن في أيّ نزعة استقلالية لدى أي من هذه الدول، ضرراً لهذه المصالح التي اعتمدت على «ريع الهيمنة» منذ عقود. وفي هذا السياق، حملت تصريحات الرئيس الأمريكي جو بايدن التي قالها ممازحاً على هامش أعمال قمة «الناتو» بعض الصدق! فبحسب بايدن: كييف لا خلاص لها من واشنطن، وتوجّه إلى نظيره الأوكراني فلاديمير زيلينسكي قائلاً: «أخبار سيئة لك يا سيد زيلينسكي. لن تتمكن من التخلص منا، أنت عالق معنا. شكرا لك». ففي الحقيقة، جاءت هذه الكلمات معبّرة فعلاً! إذ لن تستطيع كييف اليوم التخلص من واشنطن ومشاريعها التي دفعت الشعب الأوكراني إلى حرب خاسرة، عبر توريط البلاد بسلسلة من الخطوات حولتها إلى مركز تهديد لدولة عظمى مجاورة، وتُصر واشنطن مع أتباعها القابعين في السلطة في كييف والدول الأوروبية الأخرى على خوض هذه المعركة إلى نهايتها، حتى وإن تفتت أوكرانيا، ولم تبق موجودة على الخريطة! وما جرى في هناك بدا مثالاً واضحاً لكثير من الدول التي كانت تدور في فلك المركز الغربي، فالابتعاد والانفكاك عن الولايات المتحدة المأزومة أصبح ضرورة وطنية، ويجب أن يكون عنصراً أساسياً في سياسة أي دولة تحاول حقاً الدفاع عن مصالحها. فواشنطن تتعامل مع كل «حلفائها» كأوراق جاهزة للإحراق، وتعتمد على الأنظمة التي جرى تثبيتها في عدد كبير من هذه الدول لتضمن «الطاعة».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1131