ارتدادات سياسية مرتقبة للوثائق المسرّبة المتداولة
يجري على نطاقٍ واسع تداول وثائق، يفترض أنها وثائق حقيقية مسرّبة من البنتاغون الأمريكي، وبالرغم من أن صحة هذه الوثائق لا تزال غير مؤكدة، إلا أنها باتت عنصراً مؤثراً وخلقت حالة من عدم اليقين أربكت البعض، وخصوصاً بعد الإعلان الأمريكي الرسمي عن صحة بعض المعلومات المتداولة، واتخاذ واشنطن خطوات سياسية وقضائية لاحتواء المسألة ومحاسبة «الفاعل» المفترض.
تقول رواية وسائل الإعلام الأمريكية التي سارعت لتغطية تطورات القضية، أنّ وثائقاً أعدها 16 جهاز استخبارات أمريكي، وجرى إرسالها إلى البنتاغون جرى تسريبها، عبر شخص اطّلع عليها، ونسخها ونشرها تباعاً في مجموعة للمحادثة الجماعية في منصة ديسكورد الأمريكية، والمثير أن هذا التسريب بدأ منذ زمن، لكنه لم يلق تغطية إعلامية حقيقية إلا مؤخراً. حين قامت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية بنشر تحقيق حول الموضوع في 6 نيسان الجاري. وفي هذا السياق، تطلق عدة جهات رسمية أمريكية تصريحات تفيد بأن ما جرى تسريبه هو وثائق حقيقية، فبحسب ممثل البنتاغون، تعد بعض هذه الوثائق عالية السرية، ويصل عدد ما جرى تسريبه- حتى لحظة اعتراف البنتاغون- حوالي 100 وثيقة. عدّت وزارة الدفاع الأمريكي أن هذا التسريب يُعدّ «خطراً جسيماً للغاية» على الأمن الوطني الأمريكي.
وزارة العدل تتحرك ومتهم محتجز
استجابت وزارة العدل الأمريكية للقضية الحساسة، وفتحت تحقيقياً جنائياً، وتعاون معها عدد من الجهات الرسمية من ضمنها المنصة التي استخدمت لتسريب الوثائق، وأعلنت واشنطن في وقتٍ لاحق عن إلقاء القبض على أحد جنود الحرس الوطني، ويدعى جاك تيشيرا، الذي استطاع حسب الرواية الأمريكية، الوصول إلى هذه الوثائق من أحد القواعد العسكرية التي عمل بها. على إثر ذلك، وجّهت محكمة في بوسطن لوائح الاتهام ضد تيشيرا بسبب «التخزين غير القانوني لـ معلومات تتعلق بالدفاع الوطني، ووثائق استخباراتية سرية، وإتاحتها للجمهور العام». لكن الرواية الرسمية التي جرى تقديمها تثير نفسها الكثير من التساؤلات حول هذا التسريب ومن يقف وراءه بالضبط، وخصوصاً أن الجندي الذي حصل على هذه المعلومات لم يكن مخولاً للوصول إليها، ولا يمكن له التحرك بشكلٍ منفرد، حتى وإن حصل على معلومات حساسة لهذه الدرجة.
توضيحات لابد منها
يعلم الجميع، أن تسريب وثائق شديدة الحساسية كهذه لا يمكن أن يتم باجتهاد شخصي، أو مبادرة من أحد أفراد الحرس الوطني، حتى مع الأخذ بعين الاعتبار وجود توجّهات سياسية ما دفعت تيشيرا للقيام بذلك! والأهم من ذلك، أن قرار فرد تسريب هذه الوثائق يختلف كلياً عن قرار مؤسسات إعلامية بنشرها على نطاق واسع، وخصوصاً، أن التسريب حدث في وقتٍ سابق للنشر. ما يعني أن هناك من اتخذ القرار باطّلاع الرأي العام على هذه المعلومات، وفي لحظة سياسية محددة. ولذلك ينبغي نقاش المسألة من هذه الزاوية تحديداً. ويمكن القول: إن الاحتمالات في هذه الحالة تتضح كثيراً، فيمكن أن يكون قرار التسريب صدر عن سياسيين أمريكيين لاعتبارات تندرج في إطار الصراع الداخلي الواضح، وإما لخلط الأوراق في لحظة صدام عالمي حساسة، أي إن غرض التسريب يمكن أن يهدف لإحراج أطراف داخلية أو خارجية، أو أن يكون جزءاً من عملية تضليل كبرى يجري ضمنه تداول بعض المعلومات الصحيحة إلى جانب أخرى كاذبة يمكن أن تربك الخصوم وتدفعهم لإعادة حسابات ما.
تعامل حذر
عرضت الوثائق المسرّبة العديد من المسائل، كان أبرزها ما جرى تداوله حول الصراع على الحدود الروسية الأوكرانية ودور الناتو في هذه الحرب، وقدّمت الوثائق المفترضة بيانات تفصيلية عن تعداد القوات الأوكرانية والتحضيرات التي يجري إعدادها لهجوم مضاد في الربيع، بالإضافة إلى تقييمٍ للاستعدادات اللوجستية الأوكرانية وقدراتها الدفاعية. وفي هذا السياق أشار دميتري بيسكوف: أنّ الكرملين «اطلع على جميع التقارير الإعلامية حول الموضوع» وأضاف المتحدث الرسمي: أنَّ دراسة مثل هذه الوثائق تندرج في اختصاص الاستخبارات الروسية، مؤكداً أنّ ما يهم روسيا هو «تحليل هذه البيانات، وبالأحرى التشكيك في مصداقيتها وصحتها، ولكن يجب دراستها بعناية». أما نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف فقد أشار إلى احتمال أن تكون الولايات المتحدة قد رمت الوثائق عمداً. ودلل على ذلك بالقول: إن واشنطن بصفتها «طرفاً في الصراع» ربما سعت إلى «تضليل العدو، الذي هو روسيا الاتحادية». وفي منحى مشابه، حاول مسؤولون أوكران التقليل من أهمية ما يجري تداوله، وشكّكواّ بدقة المعلومات، إذ قال المتحدث باسم المخابرات العسكرية الأوكرانية، أندري يوسوف: إنه «من المهم جداً أن نتذكر أنه في العقود الأخيرة، كانت أنجح عمليات الخدمات الخاصة الروسية تتم في برنامج فوتوشوب» في إشارة إلى أن مصدر المعلومات عن الجبهة الأوكرانية المتداعية كان محاولة تضليل روسية لا أكثر! لكن ذلك لم يمنع مكتب الرئيس فولوديمير زيلينسكي من إصدار بيان حول اجتماع عقده اﻷخير مع كبار أركانه العسكريين، أشار خلاله إلى التركيز على تدابير منع تسرب المعلومات المتعلقة بخطط القوات المسلحة.
بلينكن يحاول امتصاص الصدمة
نطاق تأثير الوثائق كان أوسع من المعارك الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، بل ربما يكون أهم ما جرى تداوله يخص مسائل أخرى. فمجمل الوثائق توجّه اتهامات غير مباشرة للإدارة الأمريكية بالانخراط بعمليات تجسس واسعة النطاق استهدفت حلفاءها المحتملين قبل خصومها، وتعج الوثائق المتداولة بمعلومات لا يمكن أن تصل لها الاستخبارات الأمريكية إلا عبر اختراقات كبرى في أماكن حساسة، ما بدأ يستدعي ردود فعل من الأطراف التي جرى ذكرها. مثل: أوكرانيا، وكوريا الجنوبية، وتايوان، والإمارات، ومصر، والكيان الصهيوني. ويبدو أن ارتدادات ما جرى تداوله بدأت تنعكس بشكل أو بآخر على الإدارة الحالية، ما دفع وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن للقول بأن وثائق البنتاغون السرّية، لم تؤثر على علاقات واشنطن بشركائها. وأضاف بلينكن، خلال مؤتمر صحفي في العاصمة الفيتنامية هانوي، قائلا: «عقب تسريب المعلومات، أجرينا اتصالات على أعلى المستويات بحلفائنا وشركائنا، وأوضحنا لهم التزامنا بحماية استخباراتنا المشتركة وشراكاتنا الأمنية». مشيراً إلى أن حلفاء الولايات المتحدة أظهروا «الامتنان» حول الإجراءات التي تتبعها واشنطن للرد على هذه التسريبات.
قد لا تنكشف مدى صحة هذه الوثائق، أو من يقف وراء تسريبها في وقتٍ قريب، لكن ردود فعل ملموسة بدأت تتضح. وقد تقدّم الأيام القادمة إيضاحات إضافية، لكن ينبغي القول: إن تاريخ الولايات المتحدة الحافل بالتضليل والتنصت على حلفائها رافقه دائماً تسريبات مشابهة، لكن طبيعة ما جرى تداوله حتى اللحظة يفرض علينا أخذ الأزمة الأمريكية الداخلية المتفاقمة بعين الاعتبار، وخصوصاً إذا ما ربطنا هذه التسريبات بما قام الصحفي الأمريكي سيمور هيرش بنشره من تقارير، أو ما أطلقه ويطلقه من تصريحات. فهناك أطراف متصارعة داخل واشنطن لا ترى ضيراً من وضع أوراق محرجة على الطاولة بهدف إرغام خصومهم لاتخاذ خطوات محددة، ومعركة «كسر العظم» الجارية في أروقة واشنطن أصبحت تفرض على أطرافها اللجوء إلى كافة الوسائل الممكنة لفرض واقع جديد لا يمكن القفز فوقه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1118