ما الذي يُحوّل مبادرات القوى الصاعدة إلى واقع؟

ما الذي يُحوّل مبادرات القوى الصاعدة إلى واقع؟

جاء الإعلان عن توقيع اتفاق سعودي- إيراني برعاية صينية كالصاعقة بالنسبة للكثير من القوى، وتحديداً الكيان الصهيوني والولايات المتحدة، فالاتفاق الذي جرى توقيعه في العاصمة بكين يوم 10 آذار الجاري يعتبر لحظة تاريخية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ونستطيع القول: إن ما جرى في بكين سيكون له، دون شك، تأثيرات واسعة على منطقتنا.

استضافة العاصمة الصينية بكين بين 6 و10 آذار لقاءاً رفيع المستوى بين السعودية وإيران، حيث مثّل المملكة السعودية مساعد العيبان وزير الدولة ومستشار الأمن الوطني، ومثّل إيران علي شمخاني أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، وكان اللقاء برعاية صينية، بحضور وانغ يي عضو المكتب السياسي للجنة المركزية ومدير مكتب لجنة الشؤون الخارجية التابعة للجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني. وانتهى اللقاء بإصدار بيان ثلاثي مشترك كان أهم ما جاء فيه هو: إعلان البلدين عن استئناف العلاقات الدبلوماسية المقطوعة منذ عام 2016 وتبادل السفراء في مدة أقصاها شهران، وأشار البيان إلى رغبة البلدين في إعادة تفعيل اتفاقية التعاون الأمني الموقعة عام 2001، وإعادة العمل في الاتفاقية العامة الموقعة عام 1998 للتعاون في مجال الاقتصاد والتجارة ومجالات أخرى.

هل حقاً كان إعلاناً صادماً؟

لم تلق المباحثات التي استضافتها الصين باهتمام وسائل الإعلام، وربما كان ذلك أحد العوامل الضرورية لإنجاح هذا اللقاء، والخروج بالبيان الختامي المشار إليه، لكن ما ينبغي التنويه له، والذي يعد نقطة جيدة لفهم ما يجري فعلاً، هو أن المباحثات التشاورية السعودية- الإيرانية كانت قد بدأت بالفعل، واستضاف العراق عدداً من اللقاءات المعلنة بين الجانبين، اللذين تواصلا إلى حد الإعلان عن توقيع اتفاقية أمنية مؤخراً، ما يعني أن الإعلان عن تفاهمات أوسع بين إيران والسعودية لا يعد أمراً مستغرباً في سياقٍ كهذا، لكن المسألة الأساسية في الموضوع كانت الرعاية الصينية لهذا اللقاء، الذي توّج الجهود السابقة لحل الخلافات بين البلدين، واقتران الصين بشكل مباشر بهذه المصالحة يحمل دلالة سياسية مهمة. فالأزمة الطويلة والشائكة في العلاقات بين دول الخليج- وعلى رأسهم السعودية وإيران- خلقت بؤرة توتر خطيرة إلى جانب بؤر أخرى في المنطقة، وكانت مآلات تطور أزمة العلاقات هذه شديدة التأثير على مستقبل المنطقة، وخصوصاً أن الولايات المتحدة استثمرت فيها وغذّتها- إن لم تكن خلقتها- بشكلٍ واضح، كجزء أساسي من مشروع الفوضى الخلاقة، والمبادرات الوحيدة التي قدّمتها واشنطن كانت إما إغراق الخليج بالقواعد الأمريكية، وتحضير الأسلحة لمواجهة شاملة قادمة، وإما توريط الدول العربية في تحالفات مشبوهة مع الكيان الصهيوني بهدف التصدي لما أسمته «الخطر الإيراني المشترك». وهنا برز دور صيني معاكس، وفرض نفسه كوزن قادر على دفع الأمور باتجاه مخالف للإرادة الأمريكية- الصهيونية.

لماذا الآن؟

إحدى القطب المخفية في هذا الموضوع، هي أن كلاً من الصين وروسيا كانتا قد صاغتا مبادرات خاصة لخفض التوتر في الخليج منذ سنوات، ونشرت وزارة الخارجية الروسية تفاصيل مبادرتها التي أسمتها «مفهوم الأمن الجماعي لمنطقة الخليج الفارسي» وتمحورت هذه المبادرات على نزع فتيل التوتر والبحث عن خطوات تطمينية مشتركة من قبل جميع الأطراف، آخذة بعين الاعتبار مخاوفهم الموضوعية. هذه الخطوات الدبلوماسية والسياسية الروسية والصينية لم تنقطع خلال السنوات الماضية، وظلت حاضرة في تصريحات البلدين، لكن نجاح الصين في إحراز تقدّم في هذه المسألة، وفي هذه اللحظة بالذات، يحمل دلالات أكبر من دائرة نطاق الخليج، فتحويل المبادرة الصينية من القول إلى الفعل يعني أن وزن القوى التي دفعت في هذا الاتجاه بات يسمح لها بتحويل هذه المبادرات إلى واقع، فالنشاط الصيني لا يمكن النظر إليه بمعزل عن النشاط الروسي في السياق ذاته، ونجاح هذه المساعي يعني بالضرورة أن الفوضى «الخلاقة الأمريكية» لم تكن قادرة على إطالة الاشتباك لوقت أطول، وتراجع هذا المشروع على وقع ضربات الخصوم، وإذا ما كتبت الأيام القادمة استدامة في التفاهمات الإيرانية- السعودية المعلن عنها، سيخسر مشروع الفوضى الخلاقة أهم أركانه في المنطقة، وهو الشقاق الإيراني- السعودي مع تبعاته السياسية والطائفية. وسوف تنجح روسيا والصين مجدداً في تقديم مثال جديد على دورهم في إطفاء حرائق واشنطن، التي عمّلت على إشعالها في كل المناطق المحيطة بهما.

دلالات ما جرى؟

إذا ثبّتنا الوقائع السابقة يمكننا الوصول لاستنتاج أن وزن القوى الصاعدة وعلى رأسها روسيا والصين بعد أن بات قادراً على تحقيق اختراقات على هذا المستوى، سيسعى لتحقيق اختراقات في ملفات أخرى لن تكون أقل شأناً من إيجاد أرضية التفاهمات المشتركة بين دول الخليج وإيران، ومن جهة ثانية يمهد هذا الخرق لنسف كل المساعي الأمريكية-الصهيونية التي عملت لسنوات عبر حشد دول المنطقة في حلف واحد إلى جانب الكيان لمواجهة إيران، فالسعودية كانت في معظم التاريخ الحديث رأس الحربة في «الخلاف العربي- الإيراني» ويمكن بعد الوصول إلى تفاهمات بين الطرفين فرض مناخ إيجابي بين كل الدول العربية وإيران. ما سينعكس على كثير من الملفات التي غذاها الشقاق السابق، وحاول الكيان استثمارها لصالحه، وبما يعكس مصلحة شعوب المنطقة.

في مهم الموقف الأمريكي

لا تستطيع الولايات المتحدة أن تقول علناً إنها ضد أية تفاهمات بين السعودية وإيران، لكن الموقف المعلن كان واضحاً وغير قابل للإخفاء، فرغم الترحيب الشكلي للناطق باسم مجلس الأمن القومي، جون كيربي، بالاتفاق شكك في الوقت نفسه بالتزام إيران بتعهداتها، وانشغل كيربي بالحديث عن تعاظم نفوذ الصين، وبأن هذا النشاط يلقى اهتماماً من الولايات المتحدة التي تراه مدفوعاً «بمصالح الصين الأنانية»، وفي السياق نفسه صرّح الرئيس الأمريكي، أن «العلاقات بين إسرائيل وجيرانها العرب كانت أفضل للجميع».
يمكننا القول: إن التصريحات الأمريكية الصادرة حتى اللحظة تظهر حقيقة الموقف الأمريكي مما جرى ويجري، فرغم تأكيدات كيربي أن واشنطن «لم تكن طرفاً في هذا الخلاف» إلا أن الجميع يدرك أن المصلحة الأمريكية تقتضي الحفاظ على مستوى عالٍ من التوتر في المنطقة، وهو الذي شكّل الذريعة لوجود قواتها وقواعدها بالخليج، وما يدفع الرئيس الأمريكي للقول: إن علاقات العرب مع «إسرائيل» كانت خياراً أفضل، إنما يعبّر فيها عن نجاح الصين في فرض توجه مختلف، لا تكون فيه إيران «عدواً مشتركاً» بل شريكاً محتملاً بإمكانات كبيرة.

غابت عن البيان الثلاثي الختامي الإشارة إلى تفاهمات ذات طابع عسكري، وأشار إلى عودة العمل بالاتفاقية الأمنية لعام 2001، في الوقت الذي كانت المبادرة الروسية المشار إليها سابقاً قد وضعت إجراءات عسكرية محددة بهدف بناء مستويات عالية من الثقة، ما يعني أن روسيا يمكن أن تلعب دوراً أوضح في الفترة القادمة لتمتين التفاهمات التي جرى التوصل لها في بكين، لتشمل إجراءات عسكرية متبادلة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1113