«صقور واشنطن» يحرقون السفن ويدفعون للمواجهة!
الصدام الجاري في أوكرانيا، وما يعنيه من مواجهة شاملة بين معسكرين في حدود تمتد أبعد من خطوط جبهة القتال، يُولّد مستوى متزايداً من الضغط، إذ ظهرت في الأيام القليلة الماضية مؤشرات جديدة على حجم المأزق الغربي، وتحديداً في واشنطن، التي دفعت طوال السنوات الماضية لتفجير أوروبا، وخلق بؤرة تسمح بإنهاك منافسيها هناك.
التقدم الذي حققته القوات الروسية على عدد من المحاور في أوكرانيا، نبّه مجدداً إلى أن مجريات المعارك لا تسير كما روّج الغرب في الأشهر الماضية، وترافق التقدم الروسي بارتفاع أصوات الكثير من العسكريين الغربيين، الذين شكّكوا بقدرة الجيش الأوكراني- حتى بعد الحصول على الأسلحة الجديدة المنتظرة- في تحقيق نجاحات نوعية ضمن الإحداثيات الحالية، لا بل إن إعلان نائب رئيس مكتب الرئاسة الأوكرانية إيغور جوفكفا بأن مخزونات الذخيرة في بلاده تقترب من الصفر، مع ما رافق ذلك من آمال منخفضة لتأمين الأسلحة الجديدة والمقاتلات الحربية التي طلبها زيلينسكي في جولته الأوروبية الأخيرة، كل هذا تعد مؤشرات جدّية على أن فرص الجيش الأوكراني في تحقيق نجاحات تتبدد بسرعة.
الارتدادات في الغرب
لا شك أن مجريات المعركة تطرح الكثير من التساؤلات في الأوساط الغربية، فإذا اعتبرنا أن قدرات الغرب لا تزال تسمح بتقديم الدعم لكييف لفترة أطول، فهذا لا يعني ألا تعيد هذه الأوساط النظر في جدوى خوض الصراع في شكله الحالي، وتحديداً دون نتائج ملموسة على الأرض. أما إذا تعاملنا بشكلٍ جدي مع التقارير التي تتحدث عن حجم الاستنزاف في مخزونات الغرب الاستراتيجية، والتي باتت بمستويات لا تسمح له بمزيد من التصعيد، وخصوصاً، أنه ربما يؤدي إلى توسيع المواجهة مع روسيا، فهذا يعني أن أصحاب القرار في الدول الغربية قد بدأوا البحث فعلاً في إمكانية عقد مفاوضات. وهنا وفي هذه اللحظة بالذات تكشف وسائل الإعلام، ونقلاً عن «مصادر مطلعة» جملة من المسائل التي تزيد من ضريبة التراجع.
واشنطن.. العقل المدبر لتفجير الأنابيب
فجّر الصحفي الأمريكي الشهير سيمور هيرش- في مقال مطول نشره على موقعه الإلكتروني- قنبلة من العيار الثقيل، بعد أن وجّه أصابع الاتهام إلى وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية بالوقوف وراء تفجير خطوط أنابيب السيل الشمالي. فضح هيرش سابقاً، وفي لحظات شديدة الحساسية أوراقاً مخفية من جرائم الولايات المتحدة حول المجزرة التي قامت بها القوات الأمريكية في فيتنام بحق مدنيين عام 1969، وفضح في ملف آخر التعذيب الذي مارسته قوات الاحتلال الأمريكي في سجن أبو غريب العراقي. وكما هو معروف، لا يستطيع صحفي مهما كان ماهراً الوصول إلى معلومات حساسة إلى هذه الدرجة دون «مصدرٍ» ما، له مصلحة في لحظة معينة بكشف هذه الأوراق، فمقال هيرش المنشور تحت عنوان «كيف أسقطت أمريكا خط أنابيب نورد ستريم» يستند إلى معلومات سرّبها مصدر مشارك بالتخطيط وتنفيذ العملية، والذي قدّم للصحفي كل ما يلزم للوصول إلى هذا «السبق الصحفي» فالمقال مثير للانتباه لما يحمله من تفاصيل عن العملية، فقد كشف أن غرفة عمليات خاصة اشترك فيها مستشار الأمن القومي الأمريكي جيك سوليفان، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن، ونائبته فيكتوريا نولاند، مع رجال استخبارات في CIA قاموا بتحضير خطة نجح فيها غواصون بزرع ألغام على الأنابيب، متسترين تحت مناورة نفذها حلف الناتو قبل أشهر من التفجير، ويتحدث هيرش استناداً لمصدره: أن الولايات المتحدة لم تتحرك بشكلٍ منفرد، وخص بالذكر الدور المساعد الذي لعبته النرويج في هذه العملية، إذ كانت مسؤولة عن تفجير هذه الألغام عن بعد، وذلك استناداً للضوء الأخضر الذي أعطاه الرئيس الأمريكي جو بايدن لتنفيذ العملية.
ضربة موجعة أخرى!
في سياق مشابه نشرت جريدة واشنطن بوست مقالاً نقلت فيه عن «مصادر مطّلعة» أيضاً: أن القوات الأوكرانية كانت تتلقى إحداثيات الأهداف الروسية من غرفة عمليات للجيش الأمريكي في مكان ما في أوروبا. نقل المقال عن 3 مسؤولين أوكرانيين وآخر أمريكي لم يكشفوا عن أسمائهم، أن القوات الأمريكية شاركت بشكل مباشر إما بتحديد الأهداف أو بتأكيد الهدف قبل ضربه، وحسب أحد المصادر، فإن عناصر الجيش الأوكراني كانوا «يحددون الأهداف التي يريدون ضربها، وفي أي موقع، ثم يتم إرسال هذه المعلومات إلى كبار القادة، الذين ينقلون الطلب بعد ذلك إلى شركاء في الولايات المتحدة، للحصول على إحداثيات أكثر دقة. وقال المسؤول: إن الأمريكيين لا يقدمون دائماً الإحداثيات المطلوبة، وفي هذه الحالة لا تطلق القوات الأوكرانية النار».
يؤكد المقال في سطوره الأولى، أن المعلومات الواردة فيه تشير بوضوح إلى «دور أكبر للبنتاغون مما كان متوقعاً» ما يعني أن الجيش الأمريكي لم يقدم السلاح فقط.. بل قدّم خريطة أهداف روسية دقيقة للجيش الأوكراني الذي استخدم صواريخ أمريكية عالية الدقة لتدمير هذه الأهداف.
في الحقيقة، لا يعتبر ما كتبه هيرش في مقاله المطول، أو حتى ما جاء في مقال واشنطن بوست، معلومات صادمة، فحجم التورط الأمريكي كان واضحاً، ولم يكن من الصعب التنبؤ بأن الأداء العالي للقوات الأوكرانية لا يمكن أن يتم دون دعم لوجستي واستخباراتي عالٍ، وهذا ما ينطبق على تفجير خط الأنابيب أيضاً، الذي تم دون أن يخلّف أثراً واضحاً حول هوية الفاعل، بالرغم من الرصد الروسي المستمر لبحر البلطيق. ما يضع أمامنا سؤالاً جدياً حول دوافع كل هذه المصادر- إن كانت متعددة فعلاً- من تسريب هذه المعلومات للصحافة في هذه اللحظة بالذات، ومدعمة بتفاصيل يصعب إنكارها. المشترك في هذه المعلومات المسرّبة هي أنها تكشف حجم التورط الأمريكي، ما يجعل أي تراجع بمثابة هزيمة مدوية للولايات المتحدة، ستضعف أوراقها في أية مفاوضات قادمة، فقد نقل هيرش عن مصدره، أن كل المشاركين في هذه العملية أدركوا خطورة الموقف وبأن ما يجري «ليس لعب أطفال» ولا يجب أن ينجح أحد بتعقب آثار الأمريكيين المتورطين، لأن عملية كهذه تعتبر «عملاً من أعمال الحرب» وهو تماماً ما قام به هذا المصدر المجهول!
احراق سفن أمام نية التراجع
كل هذا يضعنا أمام التصعيد مجدداً، فمن أعطى الضوء الأخضر لتسريب هذه المعلومات، وقدّم كل المعلومات التي تشير إلى حجم التورط الأمريكي، وعلى مستويات رفيعة، مثل: الرئيس، ومستشار الأمن القومي، ووزير الخارجية والاستخبارات المركزية، كان يقصد إغراق السفن، وإعاقة التراجع الذي بدأ ينضج داخل دوائر صنع القرار الأمريكي، أي إنها محاولة جديدة لانخراط أكبر في مواجهة مع روسيا، ولا يرى هؤلاء مشكلة من تحويل هذه المواجهة إلى معركة مكشوفة، تلعب فيها واشنطن دوراً مباشراً بعد محاولاتها التستر واللعب في الظل.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1109