قمة عربية- صينية ونموذج جديد لتعاون «دول الجنوب»

قمة عربية- صينية ونموذج جديد لتعاون «دول الجنوب»

أنهى الرئيس شي جين بينغ زيارة مفصلية للمملكة العربية السعودية، استمرت 3 أيام من 7 إلى 10 كانون الأول الجاري، تخللها الكثير من اللقاءات الرسمية، وجرى ضمنها توقيع العديد من الاتفاقيات التي تؤكد بأن دول الشرق ماضية في تعميق علاقاتها، وإحياء صلات تاريخية قديمة جرى تجميدها قسراً لحقبة من الزمن.

تعتبر الزيارة بلا شك حدثاً كبيراً، لكن ورغم الاهتمام الشديد الذي أولته وسائل الإعلام لمجرياتها ظلت أسئلة كثيرة معلّقة، فأدق تفاصيل اتفاقيات التعاون الثنائي التي جرى توقيعها تبقى قاصرة عن تقديم صورة شاملة لما يعنيه هذا الحدث، لا في حاضر المنطقة، فحسب بل في مستقبلها أيضاً! وربما يكون أكثر ما يوضح أهمية ما يجري هو ما قاله الرئيس الصيني نفسه، حين وصف أشكال التعاون هذه بنموذج للتعاون بين دول الجنوب في سبيل تحقيق المنفعة المشتركة. ما يجعلنا أمام مثال لا يخص الصين والدول العربية فحسب، بل يشمل دول ومستعمرات سابقة ترى اليوم في تكاتفها فرصة جدّية للخلاص.

ثلاث قمم في زيارة واحدة!

حضر الرئيس الصيني في هذه الزيارة ثلاث قمم مهمة ارتبطت بشكل أساسي بتدعيم علاقات بلاده مع الدول العربية، إذ عقد شي جين بينغ قمة سعودية صينية، التقى خلالها الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي العهد محمد بن سلمان، جرى خلالها توقيع عدد من الاتفاقات، كان على رأسها اتفاقية شراكة استراتيجية شاملة بين البلدين، بالإضافة إلى «خطة المواءمة» بين رؤية المملكة السعودية لعام 2030 ومبادرة «الحزام والطريق» التي جرى إطلاقها في 2013. هذا بالإضافة إلى رفع درجة التعاون في مجالات متعددة، أبرزها: قطاع الطاقة الذي يشهد نشاطاً استثمارياً صينياً ملحوظاً في مجمل الحلقات من الاستخراج حتى التكرير. أما الحدث الثاني الذي حضره الرئيس شي، كانت أعمال «قمة الرياض الخليجية- الصينية للتعاون والتنمية» التي يشارك فيها قادة دول مجلس التعاون الخليجي. والقمة الثالثة كانت «قمة الرياض العربية- الصينية للتعاون والتنمية» التي حضرها إلى جانب دول الخليج العربي البارزة كالإمارات والكويت دول من المنطقة العربية، مثل: مصر والجزائر وتونس والعراق والأردن وغيرها. هذا بالإضافة إلى لقاءات ثنائية رفيعة المستوى بين الوفود العربية والصينية.

أبعد من التجارة

تترافق الزيارات الرسمية الصينية بنجاحات دائمة في عقد صفقات، وهو ما كان متوقعاً في بيئة استثمارية خصبة، كمنطقة الخليج العربي التي كانت تخطو بثبات لتطوير علاقاتها مع دول الشرق. لكن هذه الزيارة جاءت لتثبت اتجاهً نوعياً يتجاوز التبادل التجاري العربي- الصيني، وينتقل إلى تدعيم السعي الخليجي لتنويع مصادر الدخل الوطني، وتقليل نسبة مساهمة الصادرات النفطية على حساب زيادة حصة الصناعة في الناتج الإجمالي، وهو ما يمكن لبكين أن تقدم تسهيلات جدية فيه، عبر توطين عدد كبير من الصناعات في مدن صناعية جديدة ساهمت في إنشائها وفق معايير حديثة، تحديداً في السعودية والإمارات، وقدمت الصين فيها التكنولوجيا اللازمة إلى جانب البنية التحتية الضرورية، ما يشكل فرصة نوعية للمستقبل الاقتصادي في هذه البلدان. أما عن حصة تطوير قطاع الاتصالات والبنية التحتية اللازمة لتشغيل الجيل الخامس بالاعتماد على التكنولوجيا الصينية، كانت نقطة فارقة إضافية، فعلى الرغم من موقف واشنطن المعادي لهذه الشراكة، نجحت دول الخليج في تجاوز التحذيرات الغربية والأمريكية، وثبتت هذا التعاون في هذا القطاع الحيوي، حتى أن الرئيس الصيني ذكر المسألة ضمن المجالات ذات الأولوية، وأشار إلى ضرورة تعزيز التعاون «في تكنولوجيا الجيل الخامس والجيل السادس للاتصالات» وكان توقيع مذكرة تفاهم مع شركة «هواوي»، بشأن الحوسبة السحابية، وبناء مجمعات عالية التقنية في المدن السعودية، خير مثالٍ على ذلك.
الإشارة الأخطر، كانت الحديث الصيني عن ضرورة المضي في إيجاد بدائل عن الدولار في التبادلات التجارية، واللجوء إلى العملات المحلية، فعلى الرغم من أن هذه المسألة لها جوانبها الاقتصادية، إلا أن آثارها السياسية تتجاوز هذا بكثير، وخصوصاً عند الحديث عن تجارة الخامات النفطية، فالرئيس الصيني قال: إن بلاده «ستواصل استيراد كميات كبيرة من النفط الخام من دول مجلس التعاون الخليجي، وتوسيع واردات الغاز الطبيعي المسال، وتعزيز التعاون في تطوير قطاعات النفط والغاز والخدمات الهندسية والتخزين والنقل والتكرير، والاستفادة الكاملة من بورصة شنغهاي للبترول والغاز كمنصة لتسوية تجارة النفط والغاز باليوان».
النتائج الفعلية لهذه الزيارة تحتاج فترة إضافية حتى تتضح، فالعدد الكبير من الاتفاقيات التي جرى توقيعها في كافة الميادين لا يمكن حصرها في بضعة أسطر. وخصوصاً إذا ما تطرقنا إلى الجوانب السياسية والأمنية التي لم تغب أبداً عن الزيارة، كإعادة تأكيد المجتمعين على موقفهم المحايد من الحرب الأوكرانية، وضرورة إيجاد مخرج منها. إلى جانب الحديث عن ضرورة الحفاظ على أمن منطقة الخليج، في إشارة إلى المبادرة الصينية المطروحة لحل هذه المسألة. وليس انتهاءً في إعادة التأكيد على إيجاد حل للقضية الفلسطينية على أساس الشرعية الدولية وقرارات مجلس الأمن في هذا الخصوص.

سر هذا التقارب!

يحاول البعض تفسير التقارب الصيني- العربي من زاوية العلاقات السعودية- الأمريكية المضطربة، ويجري تصويره كرد فعل على الخلافات المتفاقمة بين الرياض وواشنطن، التي بلغت ذروتها بعد قرارات أوبك+ الأخيرة. إلا أن المسألة أوسع من ذلك بكثير. فلا شك أن سوء العلاقة بين الولايات المتحدة والدول الخليجية أسهم في هذا التقارب. فدول الخليج ترى التراجع الأمريكي المتسارع كغيرها، وتبحث لنفسها عن شركاء أكثر موثوقية. لكن إذا أخذنا تاريخ نشوء وتطور العلاقات الصينية العربية «وهو ما سعت المقالة التي نشرتها جريدة الرياض للرئيس الصيني التذكير به» لتبين أنها علاقات راسخة تعود إلى مئات السنين، وكانت سمة مميزة لمنطقة الشرق، والانقطاع الذي فرضته قوى الاستعمار التقليدي والولايات المتحدة لاحقاً ما هو إلا حدث طارئ. والسعي الذي نشهده اليوم لإعادة إحياء روابط قديمة هو اتجاه موضوعي، تدعمه الجغرافيا والمصالح السياسية التاريخية لدول منطقة الشرق.

نتيجة تراكم طويل

قفز التبادل التجاري بين السعودية والصين من 3 مليارات دولار في عام 2000، إلى 67 مليار دولار في 2020، أزاحت خلالها الصين الولايات المتحدة من موقع «الشريك التجاري الأول» أي أن ما نراه اليوم كان نتيجة تطور موضوعي على مدار عقدين من الزمن، وهو التحول الذي لم تنجح الولايات المتحدة بوقفه إطلاقاً، بل نجحت مؤقتاً في كبحه وعرقلته. أثناء كلمته في افتتاح القمة، قال ولي العهد السعودي: إن الدول العربية تهدف إلى رفع مستوى التعاون مع الصين، والتطلع إلى مرحلة جديدة من الشراكة معها. في الوقت نفسه عبّرت بكين أن هذه الزيارة تمثل أكبر مبادرة دبلوماسية لها في العالم العربي، أي أن ما تم إنجازه حتى اللحظة في العلاقة بين الطرفين أصبح واقعاً لا يمكن التراجع عنه، وما يجري إعلانه اليوم هو تلك الخطوات اللاحقة التي ستتعمق فيها هذا الروابط وتفتح الآفاق أمام المستقبل.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1100