التصعيد بين خيارات واشنطن وخيارات الآخرين
بعد الحديث الكثير عن إمكانية ما للتفاوض ووقف الصراع الغربي الروسي في أوروبا، ظهرت مؤشرات جديدة، فلم تمض سوى أيام قليلة حتى اتضحت الصورة أكثر، وأكد الواقع مجدداً أن لا بوادر حقيقية لتجنب التصعيد المتزايد، وأن ما ينتظرنا لن يكون إلا موجة جديدة ربما تكون أعنف وأكثر اتساعاً.
الحديث المشار إليه عن إمكانية ما للتفاوض جاء من مصادر مختلفة منها: تصريحات رسمية، البعض كان يشير إلى «ضغط أمريكي على أوكرانيا» بهدف دفعها «للانخراط جدّياً في مفاوضات»، وهو ما لا يمكن أن يكون حديثاً مقنعاً، خاصةً أن القرار الأوكراني لم يكن قراراً سيادياً مستقلاً منذ الانقلاب المدعوم غربياً في 2014. ودخول مفاوضات كهذه لا يمكن أن يحدث إلا في حال قبول الغرب لهذه الخطوة، وهو ما تدركه موسكو، وتصر لذلك على مفاوضات مع أصحاب القرار الحقيقيين، أي الغربيين أنفسهم. وهذا ما شهدنا مؤشرات على حدوثه فعلاً في مناسبات مختلفة، حتى قبل بدء العملية العسكرية الروسية، وكان آخرها الأنباء عن لقاء استخباراتي رفيع المستوى بين موسكو وواشنطن.
المفاوضات فشلت قبل أن تبدأ
في تصريحات عدة، أعلنت القيادة الروسية مؤخراً رفض الشروط الأمريكية لبدء المفاوضات، إذ أعلن المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف للصحفيين: «إن الرئيس جو بايدن قال: أن المفاوضات ممكنة فقط في حال مغادرة بوتين لأوكرانيا»، وأشار بيسكوف إلى أن روسيا رفضت هذه الشروط للتفاوض حول التسوية في أوكرانيا، مؤكداً: أن «العملية العسكرية مستمرة حتى تحقق أهدافها». وفي سياقٍ متصل عبر وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، أن عدّة دول غربية غير مهتمة بتسوية الأزمة الأوكرانية، وأضاف خلال مؤتمر «حوارات البحر الأبيض المتوسط» في مدينة روما، أن: «هناك ضرورة لإقناع بعض الحلفاء، الذين يؤيدون استمرار الحرب، من أجل جلب أوكرانيا إلى طاولة المفاوضات مع روسيا».
هل حقاً يريد الغرب التفاوض؟!
صرّحت رئيسة المفوضية الأوروبية، منذ أيام، أن أوكرانيا خسرت 120 ألف شخص منذ بدء العملية العسكرية، وكما هو متوقع وبغض النظر عن مدى دقة هذه الأرقام، سببت هذه التصريحات استياءً شديداً في أوكرانيا، التي طالبت أورسولا فون دير لاين بالاعتذار عنها، لأن أرقام كهذه تؤكد حجم الخسائر الكبيرة التي يتعرض لها الجيش الأوكراني، والتي يحرص زيلنسكي ومن معه على إخفائها عن وسائل الإعلام. لكن البيانات بعد إعلانها أثارت تساؤلات في الشارع الأوروبي والأوكراني عن جدوى استمرار هذا الصراع، وانخراط الغرب في تأجيجه، وإرسال كل أنواع الأسلحة إلى أوكرانيا، التي لن تكون قادرة على الصمود كثيراً مع هذا الكم الكبير من الخسائر، خصوصاً، إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الخسائر الأخرى في ميدان العتاد العسكري والبنية التحتية، ما يعيد السؤال المشروع: هل تعاطى الغرب جدياً مع فرصة عقد هذه المفاوضات؟ وهل يمكن أن ينخرط مستقبلاً في عمل فاعل لوقف هذا الاستنزاف؟
يبدو الجواب واضحاً عند قراءة التصريحات الأمريكية بشيء من التمحيص، فالرئيس الأمريكي بحسب ادعاء وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، يرى «ضرورة تجنب اتساع نطاق الصراع في أوكرانيا» وقال الوزير في حوار مع قناة France 2: إن بايدن يأمل في «إنهاء الصراع لا توسيعه»، مضيفاً: إن بلاده «لا تريد حرباً مع روسيا ولا تريد حرباً عالمية ثالثة» لكنه في الوقت نفسه يحاول إيهام الرأي العام أن واشنطن لا تسعى للتوتير، وإنما «تحترم خيارات أوكرانيا» وهذه الأخيرة هي من يمكن أن تضع شروطاً مسبقة للمفاوضات مع روسيا! وهو ما أكدته تصريحات الرئيس الفرنسي في أثناء مؤتمره الصحفي مع نظيره الأمريكي، حين قال: «إذا أردنا تحقيق سلام مستدام، فيجب أن نحترم الأوكرانيين، وحقيقة أنهم هم وحدهم أصحاب الحق في اختيار ظروف وتوقيت إجراء المفاوضات».
التأكيدات الغربية هذه تشير بوضوح إلى أن الولايات المتحدة لا تسعى لمفاوضات جدية، فحين يصر «صقور واشنطن» على هذه الشروط، كما لو أنهم يطلبون من روسيا إعلان استسلامها وفشلها في تحقيق أهدافها كشرط «لمفاوضات» وهو ما لا يمكن قبوله في موسكو وخصوصاً أن روسيا وعلى الرغم من بعض النكسات الميدانية، تبقى في موضع متقدم استراتيجياً، يُمكّنها من كسب جولات قادمة، ما يجعل الشروط الأمريكية مناورة ليس إلا.
هل لهذا التصعيد نهاية؟
كميات الأسلحة التي يجري ضخها في أوكرانيا من قبل الناتو بقرار أمريكي قادرة بلا شك على إطالة أمد الاشتباك، لكن الظرف العسكري الذي يواجهه الجيش الأوكراني بات يستلزم تطوراً في نوعية الأسلحة التي يجري تقديمها، ما يستوجب بدوره تطويراً نوعياً في طبيعة الرد الروسي، وبرهنت دوامة التصعيد هذه، أنها قادرة على رفع مخاطر تحوّل ما يجري إلى صراع عسكري مباشر بين قوى عظمى، ما يشكّل تهديداً على مستوى العالم، لن يكون السلاح النووي مُحيّداً فيه. فما المخرج إذا؟
يثبت السلوك الأمريكي، أن واشنطن لا ترى إلا شكلاً وحيداً لتجنب الصدام العسكري النووي، أو التقليدي بين قوى عظمى، وهو إخضاع وإذلال الخصوم، ولا تؤمن بالاحترام المتبادل أو علاج المخاوف الأمنية الحقيقية للأطراف الأخرى! وهو ما يبدو واضحاً تماماً بالنسبة للقيادة الروسية في أوروبا، وبالنسبة للقيادة الصينية في آسيا. فواشنطن تفتعل بؤراً شديدة الخطورة في المحيط الحيوي لهذه البلدان، ثم تبذل قصارى جهدها لتأجيجها وتوسيع نطاق تأثيرها وتوريط الجميع فيها، دون أن تبدي أية نية للتراجع، ما يجعل دولاً نووية عظمى كروسيا والصين أمام مخاطر وجودية كبرى، وتضعهم أمام خيار الاستسلام أو المواجهة حتى النهاية. فالتراجع بالنسبة لروسيا والصين في حالات كهذه يعني: التفريط بأمن ومصالح شعوبهم، أما التراجع بالنسبة لواشنطن فهو يعني نهاية الهيمنة الأحادية على العالم بلا شك، لكنه صون حقيقي لمصالح الشعب الأمريكي الذي سيدفع ثمناً باهظاً في أية مواجهة كبرى.
درسٌ من التاريخ
اختبر العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية عدداً من التوترات التي توقفت قبل أن تتحول إلى مواجهة نووية كبرى، كان أبرزها: أزمة الصواريخ الكوبية ومجمل الحرب الباردة، ففي الأولى: قَبل الرئيس جون كينيدي «دون إعلان» تفكيك صواريخ «جوبتير» النووية في تركيا الموجودة على حدود الاتحاد السوفييتي، في مقابل عدم إرسال الصواريخ النووية السوفييتية إلى كوبا، بالإضافة إلى تعهد أميركي بعدم غزو الجزيرة. والذي كان تراجعاً أمريكياً عن محاولات تطويق الاتحاد السوفييتي، وتهديده بأكثر من 100 صاروخ ذي رأس نووي منتشرة في أماكن متعددة في أوروبا، كان أقربها تلك التي زرعت في تركيا. أم التهديد الناتج عن الحرب الباردة فلم ينته إلا بانهيار الاتحاد السوفييتي، وتفتيت جمهورياته، وكل ما رافق ذلك من مآسٍ. واليوم، لا يرى التيار المهيمن في واشنطن إلا سيناريو كهذا للخروج من الأزمة الحالية، ويبقى تفتيت روسيا والصين وأية قوة صاعدة أخرى خيارهم الوحيد، لكن الظرف قد تغيّر، ولم يعد ما تراه واشنطن مناسباً هو الخيار الوحيد المطروح، ولن يطول الانتظار حتى نشهد تفكك حلف الناتو وغيره من رواسب الهيمنة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1099