جوهر المسألة: دفع الناتو غرباً والدفع نحو إنهائه بالمحصلة!
تتقدم روسيا في الخطوات السياسية والقانونية لضم المناطق الأوكرانية الأربع، فبعد النتائج المتوقعة للاستفتاءات التي جرت على أراضي تلك المناطق، أعلن الرئيس فلاديمير بوتين عن قَبُول الطلبات المقدمة، ووقّع أربع معاهدات للانضمام للاتحاد الروسي، داخل الكرملين في 30 أيلول. وعلى الرغم من تراجع القوات الروسية في مدينة كراسني ليمان إلا أن الأيام القادمة ربما تترك بصمة واضحة في التاريخ.
لا شك أن تصعيداً عسكرياً ربما يعقب انضمام المناطق الجديدة، ولا سيما أن أراضيها خاضعة في بعض أجزائها لسيطرة القوات الأوكرانية. وما أن تنتهي خطوات الانضمام للاتحاد الروسي حتى تصبح هذه الأراضي، أراضٍ روسية محتلة، وهو ما يحتم على القيادة السياسية والعسكرية في موسكو رسم خطة سريعة وحاسمة لوضع المساحات المتبقية تحت السيطرة الكاملة للجيش الروسي، لأن تكاليف أي خيارٍ آخر ستكون باهظة جداً على المجتمع والسلطة في روسيا. وعدا عن ذلك، فإنّ تأمين هذه الحدود الجديدة سيكون بحاجة لمساحة إضافية يتم فيها تحييد إمكانيات الهجوم الأوكراني والغربي.
أرقام على الهامش!
التطور النوعي هذا دفع المراقبين السياسيين للغوص في النتائج السياسية للاستفتاءات وخطوات الإنضمام التي تلتها، لكن بعض المعلومات المهمة ظلّت على الهامش، ولم تتطرق لها وسائل الإعلام بما يكفي، ويجري الحديث هنا عن حجم هذا التغيير في بنية الدولة الأوكرانية ومستقبلها بعد خسارة حوالي 20% من مساحتها وما قد يعنيه هذا بالنسبة لروسيا نفسها.
حتى لحظة اندلاع الحرب، ضمت هذه المناطق ملايين السكان الذين نزح بعضهم هرباً من الحرب واتجهوا إما إلى روسيا، أو إلى بعض الدول الغربية، وتفيد الإحصاءات الرسمية بأن عدد سكان لوغانسك بلغ 2.1 مليوني نسمة، ودونيتسك 4.1 ملايين نسمة، وزاباروجيا 1.6 مليون، وخيرسون 200 ألف نسمة، وبالمجموع 8 ملايين نسمة، ما يجعل هذه المناطق طاقة بشرية لا يستهان بها. هذا بالإضافة لمساهمتها السابقة بشكلٍ ملموس في الاقتصاد الأوكراني، إذ احتلت المناطق الأربع منفردة أكثر من 12% من مجمل الناتج المحلي الإجمالي الأوكراني في 2020، وتشكّل قطاعات الإنتاج الحقيقية كالزراعة والصناعة حصة لا بأس بها من مجمل الثروة المنتجة في هذه المناطق، إذ تسهم في بعض المحاصيل الزراعية المهمة بنسبة 19%، هذا بالإضافة إلى الثروات والمناجم الموجودة فيها. ويضاف إلى ذلك احتواؤها على معامل كبرى للحديد والصلب، وأكبر محطة نووية في أوروبا، وغيرها من المنشآت الحيوية الأخرى. وعلى الرغم من كون الخطوة أكثر بكثير من كونها «ضم أراضٍ إلى روسيا الاتحادية» إلا أن المناطق الأربع قادرة على تغيير التوازن في البحر الأسود، الذي أصبحت روسيا المهيمن الحقيقي فيه، وبات بحر آزوف بحراً داخلياً روسياً، ما يعني انتهاء كل الأحاديث السابقة عن استضافة قواعد بحرية للناتو في مياهه. هذا بالإضافة إلى ما تشكّله هذه الخطوة من إنشاء إطار حامٍ لشبه جزيرة القرم التي تعمل فيها قاعدة القيادة الرئيسية لأسطول البحر الأسود الروسي.
أما بالنسبة لأوكرانيا، فبالإضافة إلى حجم الدمار الذي تعرضت له القطاعات العسكرية الاستراتيجية. خسرت أوكرانيا جزءاً كبيراً من مواردها، وربما تدخل في مرحلة التفكك التدريجي، وخصوصاً كونها غير قادرة على البقاء حالياً لولا جسر الإمداد الغربي، إضافة إلى سيلان لعاب جوارها على استغلال الظرف لاستحضار مطالبات تاريخية قديمة، وأهمها: المطالبات البولندية.
ماذا بعد التنديد والاستنكار؟
تتعامل أوكرانيا حتى اللحظة مع هذه التطورات من المنطق العسكري البحت، وفي ردها على الاستفتاءات أعلنت وزارة الدفاع الأوكرانية يوم السبت 1 تشرين الأول، إن: «الجيش الأوكراني لديه وسيظل له الصوت الحاسم في أي استفتاءات اليوم وفي المستقبل» وعلى الرغم من أنه أخفق في بسط سيطرته على رقعة واسعة من هذه المناطق منذ انفجار الأزمة في 2014 إلا أن الخطاب الرسمي الأوكراني يرّوج إلى إمكانية حسم هذه المسألة عسكرياً، ويرفض أصحاب القرار في أوكرانيا الدعوات الروسية المتكررة للتفاوض- كانت آخرها في كلمة بوتين الأخيرة- كما لو أنهم يراهنون على تغيير مفاجئ في مجرى الأحداث، وهو ما لا إشارات حقيقية على حدوثه. فبعد حديث الرئيس الأوكراني عن عزمه التقدم بطلب للانضمام العاجل إلى حلف الناتو، بدأت الأصوات الغربية في تأريض هذا التوجه، وجاء الرد الأول من جاك سوليفان مستشار الأمن القومي الأمريكي الذي أشار إلى أن طلب الانضمام جاء بوقت «غير مناسب». ثم لحقه تأكيدات وتلميحات مشابهة من ينس ستولتنبرغ الأمين العام لحلف الناتو، وكريستين لامبرخت وزيرة الدفاع الألمانية. ما يحكم على التوجه الأوكراني بالفشل حتى قبل أن يبدأ. ويمكننا القول: إن الرد الوحيد على الخطوة الروسية جاء عبر استهداف خطوط الغاز المنقول إلى أوروبا «نورد ستريم 1- 2». فهذا الحدث وإلى جانب كونه استهدافاً للبنية التحتية المدنية إلا أنه سيشكل عامل ضغط كبير على الدول الأوروبية، وربما يدفعها للانخراط أكثر في الحرب مع روسيا، وخصوصاً أن هذا الاستهداف يقلل فرص الدول الأوروبية للمناورة مع الولايات المتحدة، بعد تعطيل الزر الذي تحدث عنه بوتين مراراً بوصفه حلاً لأزمة الغاز الأوروبية «المقصود إمكانية ألمانيا لفتح صمام الغاز المغلق بسبب العقوبات الأمريكية»
كلمات في الختام
لا يعد مستغرباً ألا تلقى الخطوة الروسية ترحيباً علنياً من قبل الدول المقربة من روسيا، وخصوصاً بالنظر إلى المشكلات التاريخية التي رافقت «حق تقرير المصير» الذي استخدمه الغرب في تفتيت خصومه لعقود من الزمن. لكن وعلى الرغم من ذلك جاءت جلسة مجلس الأمن لتثبت بعض القضايا مجدداً، فبعد أن تقدمت ألبانيا والولايات المتحدة بقرار لإدانة انضمام هذه المناطق إلى روسيا، وهو الإجراء الذي قوبل بفيتو روسي مؤكد وحاسم، أكّدت دولٌ كبرى حيادها مجدداً، وذلك على الرغم من التهديدات الأمريكية المتكررة، فامتنعت كل من الصين والهند والبرازيل والغابون عن التصويت، ما شكّل رسالة واضحة من الصين والهند تفيد برفضهم الانخراط في الحملة الغربية المعادية لروسيا، وعدم تغيير سياستهما في التعامل مع هذه المسألة.
لم يتحدث بوتين في كلمته الأخيرة في الكرملين بلسان روسيا فحسب، بل إن بعض أجزاء الحديث كانت تعبيراً عن رؤية ومصلحة دول وشعوب كبرى تكافح هي الأخرى في سبيل تغيير الهيمنة الغربية على العالم. فرفضه لسلوك الغرب الاستعماري في تقسيم الشعوب إلى أصناف “أولى وأخرى»، ليس فكرة روسية خالصة! وتثبيته مجدداً حق المنتجين الأساسيين في العالم في إدارة شؤونه هي جوهر ما تحاول دول كبرى كالصين والهند قوله. تأكيد الرئيس الروسي أن أوراق الدولار واليورو المطبوعة لا تصلح طعاماً أو وقوداً هو ما يجعل روسيا اليوم في مواجهة تاريخية مع واقع مرير عاناه مليارات البشر. وهو ما يجعل حدود المعركة أوسع من أوكرانيا وأقاليمها السابقة بكثير. ويجعل معاركها معارك مصيرية لا تنفصل عن المعركة الكبرى الدائرة في العالم، تلك المعركة التي تخوضها مستعمرات سابقة ضد مستعمريها التاريخيين.
جوهر المسألة
لأنّ الموضوع أكبر من الحدود الأوكرانية، فإنّه ينبغي فهمه بإطاره الاستراتيجي؛ وفي هذا الإطار فإنّ جوهر الخطوة ليس متعلقاً بالمعركة الجارية في أوكرانيا، بقدر ما هو تعبيرٌ عن بداية عملية دفع الناتو غرباً، بعيداً عن الحدود الروسية. وهو الرد العملي على محاولات الناتو الاستمرار في التمدد شرقاً. أكثر من ذلك، فإنّ هذه الخطوة هي خطوة أولى ضمن عملية متكاملة، لا لدفع الناتو غرباً فحسب، بل ولدفعه نحو التحلل والانتهاء، والذي ستكون أدواته سياسية واقتصادية بالدرجة الأولى... وهذه العملية تمثل ضرورة تاريخية لا مفر منها في الطريق نحو العالم المتعدد الأقطاب، والذي لا بد من إنهاء كلّ الأحلاف العسكرية كأساس لنشوئه وازدهاره، إضافة إلى أعادة تركيب المنظمات الدولية، وضرب هيمنة الدولار وغيرها من المفردات الكبرى لعملية التحول العالمي الجارية..
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1090