الكيان يخسر أوراق اعتماده… وينتهج «إستراتيجية التخبط»

الكيان يخسر أوراق اعتماده… وينتهج «إستراتيجية التخبط»

أكثر ما يميز جرائم الاحتلال الصهيوني أنها باتت سلوكاً مألوفاً، فمنذ نكبة فلسطين في 1948 حتى اليوم شهدنا جرائم لا تحصى، فلا احتلال الأرض، ولا هدم البيوت فوق رؤوس سكانها، ولا اعتقال الأطفال أو غيرها يشكّل حدثاً جديداً، فهذا ومع الأسف الشديد يعد جزءاً من الروتين الوحشي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني، والذي عادة ما يقابل بالصمت المطبق، وهذا تحديداً ما يدفعنا لأن نسأل: ما الذي يجعل اليوم جريمة محددة محط اهتمام الجميع؟

في يوم الأربعاء 11 أيار الجاري، حاولت قوات الاحتلال اقتحام مخيم جنين شمال الضفة الغربية، لتضاف محاولة فاشلة جديدة ضمن قائمة محاولات إخضاع المخيم السابقة. وكما جرت العادة قابلت المقاومة الفلسطينية المسلحة عناصر الاحتلال بالرصاص، وحاولت إعاقة دخولهم، مما نتج عنه وقوع عدة إصابات في أثناء الاشتباك. وقامت قوات الاحتلال المؤلفة من 40 دورية، وبتعزيز من القوات الخاصة بإطلاق الرصاص الحي على المدنيين والطواقم الإعلامية، مما نتج عنه استشهاد الإعلامية شيرين أبو عاقلة وإصابة زميلها علي السمودي برصاصة في الظهر، وذلك على الرغم من أنهم بعيدون عن المقاومة المسلحة الفلسطينية، ويمكن تحديد هويتهم لارتدائهم سترات الإعلاميين الواقية من الرصاص، ومع ذلك لم تتردد دورية الاحتلال بإطلاق النار وإصابة أبو عاقلة برصاصة متفجرة في الرأس، مما أدى لاستشهادها فوراً.

تاريخ طويل من الاعتداء على الإعلاميين

شكّل استشهاد شيرين أبو عاقلة جريمة جديدة بحق الإعلاميين الذين يرصدون الانتهاكات اليومية لقوات الاحتلال، لكن هذه الجريمة لم تكن الوحيدة من نوعها على الإطلاق، فبحسب تقرير مقدم من قبل الاتحاد الدولي للصحفيين ونقابة الصحفيين الفلسطينيين، قتلت قوات الاحتلال منذ العام 1990، 33 صحفياً، ويتضخم الرقم ليصبح 102 منذ العام 1972. وفي العام 2019 وثّقت النقابة 760 انتهاكاً لحقوق الصحفيين، كان من ضمنها أكثر من 200 اعتداء جسدي مباشر. ومن أبرز الإعلاميين الشهداء كان الشهيد ياسر مرتجى الذي قضى على إثر رصاصة في البطن اخترقت سترة الإعلاميين الواقية من الرصاص، أثناء تغطيته لاحتجاجات يوم الأرض في 6 نيسان 2018. والشهيد أحمد أبو حسين الذي استهدفه قناص من قوات الاحتلال، والذي استشهد في 25 نيسان من العام ذاته، بعد أن قضى عشرة أيام في العناية المشددة داخل المستشفى.
اغتيال أبو عاقلة في مخيم جنين أثار موجة من الاستياء الواسعة على المستوى الشعبي الفلسطيني والعربي وعلى المستوى العالمي، وتسارعت حتى الدول المعروفة بدعمها للكيان والتغطية على جرائمه لإدانة هذه الجريمة البشعة التي تصدرت عناوين الصحف العالمية، ومع ذلك تابعت قوات الاحتلال تعاملها الوحشي لتبدأ موجة جديدة من التنديد، بعد المشاهد الصادمة التي جرى رصدها وتصويرها أثناء تشييع أبو عاقلة، حيث قام جنود صهاينة بالهجوم على حملة النعش أثناء توجههم إلى الدفن، حتى كاد يصطدم بالأرض لولا صمود الشبان أمام ضربات قوات الاحتلال المتكررة.

«القضية الإسرائيلية خاسرة» ولكن!

ذهبت بعض وسائل الإعلام «الإسرائيلية» للقول بأن الفلسطينيين لا ينتظرون نتائج التحقيق، فهم يدركون أن المسؤولية الأولى والأخيرة تقع على عاتق قوات الاحتلال التي بدأت عملية اقتحام المخيم، والتي وعلى الرغم من اغتيال الإعلامية المشهورة «لم تظهر الاحترام المطلوب للجنازة»، وقد ذهب بعض الإعلاميين «الإسرائيليين» للقول: إن مشاهد التشييع التي بدت عادية بالنسبة للفلسطينيين والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية لم تبدُّ كذلك على الإطلاق بالنسبة لقوات الاحتلال، فتجمع هذا الحشد «الذي قدرته وسائل الإعلام الصهيونية بأكثر من 10 آلاف» شكّل تهديداً حقيقياً، فهو الأول من نوعه منذ زمن في هذه الأجزاء من المدينة. وشكّل الجمهور الغاضب الذي يرفع الأعلام الفلسطينية نسفاً لأوهام الكيان بتهويد مدينة القدس. وأكد على الهوية الأصلية للمدينة، وهو ما فسّر «بالنسبة لوسائل الإعلام الصهيونية» الرد المسعور من قبل قوات الاحتلال، التي تعرضت لانتقادات عبر وسائل الإعلام ذاتها، بسبب سلوكها الذي وصف بأنه «غير منضبط» و«لا يتماشى مع حساسية الموقف».
وذهب البعض الآخر من الصحفيين والمراقبين «الإسرائيليين» للقول: إنها قضية خاسرة أمام الرأي العام العالمي، وأن «إسرائيل» لن تستطيع كسبها بسهولة، كما لو أن المجتمع الدولي كان ينظر فعلاً في كل القضايا المرتبطة بالقضية الفلسطينية بعين موضوعية، ويطلق الأحكام العادلة! في الوقت الذي يعلم الجميع- على سبيل المثال لا الحصر- أن الكيان الصهيوني يخالف قرارات مجلس الأمن بشكل لا يقبل اللبس، وبدلاً من التعامل معه بوصفه كياناً خارجاً عن القانون الدولي يجري التستر عليه. وهذا ما يعيدنا إلى السؤال الأول. إذا كان قتل الصحفيين جريمة صهيونية متكررة، ما الذي يجعلها اليوم تحت الأضواء في الوقت الذي جرى التستر عن مثيلاتها سابقاً؟

أجوبة أولية

تؤكد مراكز الأبحاث «حتى الإسرائيلية منها» أن الكيان يخسر فعلياً في تحسين صورته أمام الرأي العام العالمي، ولم يصل حتى اللحظة إلى الأهداف الاستراتيجية التي وضعها مسؤولو العلاقات العامة في الكيان. وعلى الرغم من أن الرأي العام العالمي حول القضية الفلسطينية يميل تدريجياً عكس ما يريده الكيان، إلا أن هذا الجانب لا يقدم تفسيراً كافياً لـ «الصحوة العالمية» وإن السبيل الوحيد لفهم الدافع وراءها يحتاج إلى إعادة ترتيب العناصر كافة.
يواجه الكيان في الأشهر الأخيرة موجة غير مسبوقة من عمليات المقاومة البطولية، والتي لا تعتبر توجهاً جديداً لدى الشعب الفلسطيني، ولكنها وتحت جملة من العوامل باتت أكثر تسارعاً وكثافةً، فنحن نعلم أن العامل الفلسطيني الذاتي كان حاضراً دائماً، فما يتغير اليوم هو أنه بات يتكامل مع عاملٍ إقليمي ودولي قادر على تأمين المناخ المناسب لرفع زخم المقاومة الشعبية الفلسطينية مجدداً. وتشكل هذه العوامل مجتمعة الأساس المنطقي للتهديد الوجودي الذي يتربص الكيان. ظهر بشكلٍ واضح في الآونة الأخيرة تناقض استراتيجي بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وتحديدأً فيما يخص الملف الإيراني، والذي جاء كنتيجة طبيعية للإستراتيجية الجديدة التي تضطر واشنطن لتبنيها، والمضي إلى تنفيذها تحت ضغط التغيرات العالمية، وهو ما جعل السلوك «الإسرائيلي» معيقاً لخطوات واشنطن الضرورية، وفي هذه اللحظة بالذات، أدرك الكيان قبل الغرب أن مبرر وجوده انتهى، وبات الرهان عليه من قبل المجتمع الدولي رهاناً خاسراً، وهو ما سيدفع الدول الغربية قبل غيرها لاستغلال جرائم الكيان لتقليل روابطها معه، أملاً في أن يغرق وحيداً، وما أن اندلعت الحرب في أوكرانيا حتى ازداد حجم المأزق الصهيوني، ودخل في حالة من الاستعصاء سيكون ثمنها باهظاً بالنسبة له، ومن هذه النقطة بالتحديد، يمكن القول: إن إستراتيجية الكيان في الفترة القادمة ستقوم على «التخبط» وستترافق مع عدوانية شديدة، ذلك على الرغم من تأثيرها المنخفض على مجرى الأمور، وفي الوقت ذاته ستتطاير أوراق اعتماده على شاشات التلفاز، وأبرز الصحف الغربية، تمهيداً لفك الارتباط النهائي الذي سيفصله عن صمام الأمان التاريخي الذي اعتمد عليه منذ تأسيسه، هذه العملية التي لن تحدث بشكلٍ خاطف بالطبع لكنها ستأخذ طابعاً متسارعاً بشكلٍ واضح.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1070
آخر تعديل على الإثنين, 23 أيار 2022 14:00