باكستان… والمخاض العسير

يسارع البعض إلى ربط الأزمة السياسية في باكستان بالحرب في أوكرانيا، وعلى الرغم من وجود هذا الرابط فعلاً إلا أن الأهم هو التذكير بأن حرب أوكرانيا نفسها جاءت لتعبّر عن درجة تطور الصراع على المستوى العالمي، وتحولت حرب أوكرانيا إلى إعلان عن دخول هذا الصراع طوراً نوعياً جديداً، وهو ما سيرخي بظلاله على العديد من الدول، وإن كانت باكستان أولى هذه الانفجارات فبالتأكيد لن تكون آخرها.

الأزمة في بعدها الداخلي

ارتفعت في الأسابيع الماضية دعوات من قبل قوى سياسية معارضة في باكستان لحجب الثقة عن رئيس الوزراء عمران خان، وساقت هذه القوى الأوضاع المعاشية المتدهورة في باكستان بوصفها دليلاً على فشل رئيس الوزراء الحالي الذي شمل برنامجه الانتخابي وعوداً برّاقة حول مستقبل باكستان الاقتصادي، ولذلك حشدت هذه القوى صفوفها داخل البرلمان للتصويت على حجب الثقة، وبدأت المسألة تأخذ طابعاً خطراً بالنسبة لخان بعد أن شهدت صفوف داعميه بعض التصدعات وانتقل عددٌ من أعضاء البرلمان بشكل مفاجئ إلى تأييد التوجه نحو حجب الثقة، التي كان يفترض أن تجري يوم الأحد 3 نيسان، إلا أن عمران خان والذي رفض الخضوع لهذه الضغوط وأصر على المضي في هذه المعركة السياسية حتى النهاية، تقدم بطلب لرئيس البلاد عارف الرحمن علوي لحل البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة وهو ما صادق عليه الرئيس الباكستاني. وعلى أساس هذه التطورات يفرض الدستور إجراء انتخابات برلمانية جديدة في غضون 90 يوماً، ويمكن لنتائجها حسب ما يأمل خان أن تغيّر من توازنات القوى داخل البرلمان. ويمكن القول إن هذه الآمال تستند إلى التطورات السياسية التي تحملها انتخابات الأقاليم الباكستانية والتي حقق فيها الحزب الحاكم الذي ينتمي إليه عمران خان نجاحاً باهراً في إقليم خيبر بختونخوا، ويحضر نفسه لمعركة شرسة في إقليم البنجاب.

أصابع واشنطن في الأزمة

الإشارات الأولى للبعد الخارجي لهذه الأزمة جاءت على لسان رئيس الوزراء نفسه، فمع توتر الأجواء أعلن عمران خان أنه تلقى رسالة تهديد صريحة من قبل واشنطن والتي حملها سفير باكستان في الولايات المتحدة، حسب تصريحات رئيس الوزراء، ونقل الدبلوماسي الباكستاني عن «مسؤول أمريكي كبير» قوله إن العلاقات بين البلدين ستكون أفضل إذا ما «ترك رئيس الوزراء مهامه».
تصريحات خان هذه التي نفتها واشنطن ليست خارج السياق على الإطلاق، بل على العكس، فرئيس وزراء باكستان يتعرض لضغوط كبيرة منذ مدة، تصاعدت مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، وخصوصاً أن خان زار موسكو في صباح اليوم التالي لبدء المعارك على طول الحدود مع أوكرانيا، وأعلن من هناك تفهمه مخاوف موسكو الأمنية وأكد على ضرورة تطوير العلاقات بين البلدين، ومع تطور الأوضاع أعلنت باكستان أنها تلقت مذكرة من سفراء الاتحاد الأوروبي للضغط على موقفها من هذا الصراع، وحثت المذكرة باكستان للانخراط في العقوبات على روسيا والتصويت ضدها في المحافل الدولية وهو ما ترفضه إسلام أباد وتؤكد في الوقت نفسه أن الدبلوماسية هي الحل الوحيد لإنهاء هذا الصراع لا العقوبات. وفي رده على هذه المذكرة صعّد عمران خان من لهجته مؤكداً أن باكستان بلدٌ مستقل يرفض الإملاءات، وسأل: «هل نحن عبيد لكم لنفعل ما تقولون؟» في تأكيد جديد على التطور الذي تشهده السياسات الخارجية في باكستان. والتي بدأت تثير إزعاج الغرب وتحديداً واشنطن التي تصرّ أن حياد باكستان وغيرها في الموضوع الأوكراني لا يكفي، بل ما ينبغي فعله بالنسبة لواشنطن وأتباعها هو أن ينخرط الجميع بحربهم ضد روسيا لا من أجل أوكرانيا، بل من أجل إعاقة تقدم خصوم الولايات المتحدة.

التحولات في باكستان

من ضمن ما يجري ترويجه في وسائل الإعلام هو وجود خلاف بين قائد الجيش قمر جاويد باجوا، والذي أطلق تصريحات مؤخراً تنتقد العملية العسكرية الروسية، وعلى الرغم من أن باجوا لم يخرج في السياق العام عن طرح باكستان إلا أن حدة خطابه وفي هذه اللحظات بالذات أعادت إلى الأذهان الخلافات السابقة بينه وبين رئيس الوزراء الحالي والتي تفجّرت في تشرين الأول الماضي بعد أن عين باجوا قائداً جديداً للاستخبارات دون الرجوع إلى رئيس الوزراء الذي رأى في هذه الخطوة تجاوزاً له، وجرى حل المسألة شكلياً بعد أن قدّم قائد الجيش ثلاثة اقتراحات لهذا المنصب فاختار عمران خان مرشح باجوا ليجري طي الخلاف في حينه. لكن الخلاف الموجود بين قائد الجيش ورئيس الحكومة أكثر تشعباً ويتمحور حول قضايا ترتبط بتوجهات باكستان الجديدة، ويبدو قائد الجيش أكثر ارتباطاً بالغرب وواشنطن ولا يقبل التحولات المتسارعة في توجهات القيادة السياسية.
فباكستان بدأت تتجه لاتخاذ سياسة خارجية مختلفة تقوم على الابتعاد عن واشنطن، وتسارعت هذه العملية منذ انسحاب واشنطن من أفغانستان، وهنا بدأ موقف باكستان يبدو أكثر وضوحاً وباتت تعلن صراحة عن موقعها في الصراع العالمي، وخصوصاً أنها ترى مصالحها مرتبطة بالصعود الصيني والروسي في المنطقة، فباكستان رفضت مؤخراً دعوة واشنطن لحضور «قمة الديموقراطية» التي نظمتها إدارة بايدن لتؤكد إسلام أباد توجهاتها الجديدة، ومع بدأ العملية العسكرية في أوكرانيا أعلنت الأولى حيادها ودعت إلى وقف إطلاق النار عبر المفاوضات وامتنعت عن التصويت ضد روسيا في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفي الوقت ذاته بدأت مشاريع ذات طابع إستراتيجي مع روسيا تعود إلى الواجهة، مثل الحديث عن خط أنابيب لنقل الغاز الروسي إلى باكستان.
المؤسسة العسكرية التي لعبت دوراً كبيراً في تاريخ البلاد لا تزال تتمتع بنفوذ كبير وهذا ما يؤكد أنها لا تعارض هذه التحولات الجارية منذ سنوات بل إن جزءاً كبيراً من هذه المؤسسة تؤمن على الأقل بانتهاء دور واشنطن في المنطقة وتتصرف على هذا الأساس منذ سنوات، وينطبق هذا على قائد الجيش قمر جاويد باجوا، فعلى الرغم من أنه لا يزال يرى في واشنطن شريكاً «إستراتيجياً» حسب تعبيره، إلا أنه لا يستطيع تجاهل وزن الصين في المنطقة، إلى تلك الدرجة التي لا يظهر باجوا معارضة صريحة لسياسة الصين الخارجية، وظهر هذا وضوحاً في لقائه مع وزير الخارجية الصيني وانغ يي منذ أيام، فتصريحات باجوا عقب اللقاء تؤكد مجدداً ضيق مساحة المناورة في هذه اللحظات بالذات وهو ما سينعكس على أزمة باكستان السياسية، فالتحولات الكبرى في باكستان والتي تنقله من بلد دار تاريخياً في فلك الغرب إلى حيث تكون مصلحته في الشرق لن تمر بشكل سلس وسيصبح الموقف من هذه المسألة أحد أبرز جوانب الأزمة السياسية القائمة.