جزيرة تايوان «وإستراتيجية واشنطن الغامضة»!

جزيرة تايوان «وإستراتيجية واشنطن الغامضة»!

جزيرة تايوان الصغيرة باتت دون شك أحد ميادين الصراع الدولي بين الولايات المتحدة والصين، إدراك هذه الحقيقة البسيطة يلزمنا أن نقرأ «ملف تايوان» بعيداً عن كلام واشنطن الفارغ الذي تحاول من خلاله جعل الموقف من تايوان هو «مقياس ديمقراطية» الدول.

حضّت واشنطن مؤخراً «كل الدول التي تقدر المؤسسات الديمقراطية والشفافية ودولة القانون وتأمين الازدهار الاقتصادي لمواطنيها، إلى تعزيز روابطها مع تايوان»، وجاء ذلك في بيان أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية رداً على إعلان نيكاراغوا اعترافها بمبدأ الصين الواحدة وشرعية حكومة بكين، وقطع علاقاتها الدبلوماسية مع تايوان.

ديموقراطية على مقاس واشنطن

وقّعت الصين ونيكاراغوا في 10 من شهر كانون الأول الجاري، بياناً مشتركاً حول استئناف العلاقات الدبلوماسية بين جمهورية الصين الشعبية وجمهورية نيكاراغوا، واعترفت الحكومتان ببعضهما البعض وأعلنتا عن استئناف العلاقات الدبلوماسية المقطوعة. وحمل هذا الإعلان إشارات لا بدّ لنا أن نقف عندها. فمع قطع نيكاراغوا علاقاتها مع جزيرة تايوان واستعادة العلاقات الدبلوماسية مع الصين انخفض عدد الدول التي تقيم علاقات دبلوماسية مع تايوان إلى 14 دولة مما يعكس مزاجاً عالمياً من هذه القضية، فعلى الرغم من دعوات واشنطن المتكررة «للتمسك بالديمقراطية» إلا أن المسألة باتت شبه محسومة على الساحة الدولية، فالصين تحشد الرأي العام العالمي في هذا الاتجاه وتحرز نجاحات واضحة في هذا المجال، فمنذ عام 2016 قطعت 8 دول من أصل 24 دولة علاقاتها مع تايوان. بكين التي لا تزال تسعى إلى حشد الجميع في هذا الاتجاه أكدت عبر تصريحات وزير خارجيتها وانغ يي بأن «أولئك الذين لا يزالون يعترفون بتايوان يفعلون ذلك تحت ضغط دبلوماسية الدولار، وغيره من الضغوطات التي تمارسها الولايات المتحدة».
وإلى جانب تزامن إعلان الصين ونيكاراغوا عن استئناف علاقاتهما الدبلوماسية مع دعوة واشنطن تايوان للمشاركة فيما سمّته «القمّة من أجل الديموقراطية»، سجلّت الصين نقطة رابحة لها في أمريكا الوسطى، فالصين تحشد شركاءها لا في آسيا وإفريقيا فحسب، بل باتت تفعل ذلك في المناطق التي حاولت واشنطن دائماً تصويرها «كحديقةٍ خلفيةٍ» لها.

التلاعب الأمريكي

ما الذي يمكن أن تفعله واشنطن لتايوان؟ سؤال يتردد كثيراً وتشترك كل محاولات الإجابة عليه بالغموض، ويرد ذلك إلى «الغموض» الموجود أصلاً في «إستراتيجية واشنطن للتعامل مع تايوان» فاليوم تشهد واشنطن تساقط كل الدول التي تعترف بتايوان، وتدرك أيضاً أنها لن تكون قادرة على تغيير كل وثائق الأمم المتحدة التي حسمت منذ زمن موقفها من «ملف تايوان»، ومع إعلان بكين الواضح أن إعادة التوحيد مع تايوان هو قدرٌ لا رادّ له يبقى أمام واشنطن خياران لا ثالث لهما، فإما أن تحمي الولايات المتحدة حكومة تايوان اليمينية غير المعترف بها دولياً بقوة السلاح وتتورط بفتح حرب شاملة مع الصين، وإما أن تحوّل الجزيرة الصغيرة إلى صندوق ذخيرة ممتلئ علّه يؤخر مسعى بكين.
تبديد الغموض حول «إستراتيجية واشنطن» في هذا الملف أمرٌ شديد الصعوبة وخصوصاً إذا ما اعتمدنا على تصريحات المسؤولين الأمريكيين في هذا الخصوص، فالرئيس الأمريكي جو بايدن قال في 17 من شهر تشرين الثاني الماضي إن «الولايات المتحدة لا تشجع على استقلال تايوان» وادّعى أن واشنطن تترك هذا الخيار لسكان الجزيرة لتقرير ما يريدون!، وذكّر مجدداً أن موقف بلاده «لم يتغير» وأنه يستند إلى قانون العلاقات مع تايوان الذي أقره الكونغرس الأمريكي في عام 1979 والذي يعد أحد الأمثلة البارزة على متاجرة واشنطن في «ملف تايوان»، فقانون عام 1979 لا يعترف بشكل واضح بتايوان ويقرّ بمبدأ الصين الواحدة ولكنه يترك المجال مفتوحاً لإمداد الجزيرة بالأسلحة. أي إن واشنطن تسعى بشكلٍ واضح إلى عدم إعلان موقف واضح مما يسمح لها بالتلاعب وتبديل المواقف حسب مصالحها وحدها، فالرئيس الأمريكي جو بايدن وعند توجيه سؤال له في مقابلة متلفزة حول موقف واشنطن من احتمال قيام الصين بعملية عسكرية ضد تايوان، وهل ستدافع واشنطن عن تايوان، ردّ بالإيجاب، وقال: «بالطبع نحن ملتزمون بذلك» لتقوم وزارة الدفاع لاحقاً بإرسال رسالة واضحة إلى تايوان «بألا تفكر بالاعتماد على الولايات المتحدة، في حال قرّرت إعلان استقلالها».

الكشف عن «الإستراتيجية الغامضة»

إذا كان الجدل اليوم في مراكز اتخاذ القرار في الولايات المتحدة يدور حول ضرورة استبدال سياسة «الوضوح الإستراتيجي» بسياسة «الغموض الإستراتيجية» المعمول بها، لا يعني هذا على الإطلاق أن إستراتيجية واشنطن حول تايوان غامضة فعلاً، بل على العكس تماماً، فسبب غموض هذه الإستراتيجية يردّ إلى أنها غير موجودة أصلاً! لكن غياب وجود إستراتيجية لا يعني مطلقاً أن واشنطن لا تدرك تماماً نتائج سلوكها في تايوان، فهي تعلم أنّ ما تفعله من شأنه أن يزيد من التوتر في محيط الصين، ولكنها لا تعلم تماماً خطوتها التالية، وهذا بالضبط ما يدفعنا للقول بأن واشنطن لا تملك إستراتيجية واضحة تجاه «ملف تايوان». ما تدركه الولايات المتحدة أنها مضطرة للضغط على الصين ويجري ذلك عبر وسائل متنوعة. لكن إذا أردنا الإجابة عن السؤال الأول، هل ترى الولايات المتحدة نفسها قادرة على مضي في الاستفزاز لتصطدم مع الصين عسكرياً وبشكلٍ مباشر «دفاعاً عن تايوان»؟ نستطيع القول إنها غير مستعدة لذلك بالطبع، السؤال الثاني: هل لدى واشنطن أوهام بأن حكومة تايوان حتى وإن تم تزويدها بأسلحة متطورة قادرة بمفردها على قلب الخارطة والسيطرة على بكين؟ بالتأكيد لا! بل إنها تدرك أن الصين قادرة وربما خلال ساعات معدودة أن تسيطر على الجزيرة بأكملها وطي هذا الملف إلى الأبد.
بعد هذه الأسئلة يمكننا القول إن سياسة واشنطن لا تتعدى كسب الوقت على حساب «حلفائها في تايوان» الذين سيخسرون في جميع الحالات، وإذا أصر البعض على وجود إستراتيجية أمريكية في ملف تايوان فيمكن أن تكون «إستراتيجية الانتظار» المبنية على أن تنتظر واشنطن حدثاً مجهولاً يغير معطيات الواقع، وفي هذا الوقت تعمل بكين بدأب وخطا مدروسة لحسم هذا الملف دون إثارة الكثير من الغبار.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1048
آخر تعديل على الأحد, 26 كانون1/ديسمبر 2021 00:27