كوبا بين كرّ واشنطن وفرّها
لم تعتد شوارع كوبا خروج مظاهرات معارضة للسلطة، ولكن الاسبوع الماضي كسر هذه القاعدة، إذ شهدت عدة مدن تحركات واحتجاجات قدرت أعدادها بالآلاف، وخرجت في اليوم التالي وكردٍ على هذه التحركات مظاهرات حاشدة مساندة للنظام في كوبا، وحرصت على الخروج في الشوارع والساحات ذاتها، رافضة للتدخل الخارجي، ومطالبة برفع الحصار عن البلاد، وعلى الرغم من الأعداد الكاسحة التي خرجت للرد، إلا أن الحدث بحد ذاته يشير لاحتمال جديٍّ لحدوث هزات في كوبا.
سارعت الولايات المتحدة لمباركة المظاهرات الاحتجاجية في البلاد، مندّدةً بنظام الحكم القائم في تدخلٍ سافرٍ في شؤون كوبا الداخلية، بعد أن كانت قد فرضت حصاراً على الجزيرة منذ عام 1960 حتى اليوم، أملاً في دفع الأمور نحو الانفجار، ودون أخذ حقوق الشعب الكوبي واحتياجاته الإنسانية بعين الاعتبار. ومن هذا الباب لا يمكن نقاش الظرف الكوبي الحالي بعيداً عن الدور الأمريكي التخريبي فيها منذ نجاح الثورة الكوبية في عام 1959، ولا يمكن بكلّ تأكيد نقاشه دون أخذ الظروف الداخلية بعين الاعتبار أيضاً.
واشنطن: هل سامحت كوبا يوماً؟
كان نجاح الثورة الشعبية في كوبا ضربةً حقيقيةً لواشنطن، وغيرت هذه الثورة ونتائجها لا ميزان القوى داخل البلد الذي استغلته الشركات الأمريكية طويلاً فحسب، بل نجحت كوبا الجديدة بلعب دور مهم في تعديل موازين القوى على طول أمريكا الجنوبية وعرضها.
ولذلك سعت واشنطن ومنذ اللحظة الأولى التي تلت نجاح الثورة لقلب الأمور في عكس مصالح الشعب الكوبي، وكانت المسؤولة الأولى عن آلاف المحاولات لزعزعة الاستقرار، فلجأت لكل الخيارات العسكرية والاقتصادية والسياسية، وفرضت حصارها القاسي من جهة وشوهت الثورة ورموزها وحاولت تصفيتهم جسدياً ودعمت فلول النظام التابع القديم. لذلك لا يمكننا إلا وضع واشنطن في قفص الإتهام، وخصوصاً أنها وعلى الرغم من المناورة الواسعة التي أجرتها في زمن الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما، إلا أن سياستها كانت دائماًـ وكما بات مؤكداً اليوم. تهدف لقلب النظام القائم أملاً في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
ما الذي تغير؟
لم يكن لمحاولات الولايات المتحدة الحثيثة ذلك الأثر المنتظر من قبل صناع الفوضى في واشنطن، بل أثبت النموذج الكوبي طوال عقودٍ مضت أنه يملك جبهة داخلية محصنة تصدت للحصار الأمريكي عبر استنهاض الهمم وبناء اقتصاد مستقر، حوّل أبسط ميزات كوبا الاقتصادية إلى مصادر دخل أمنت احتياجات مواطنيها. لكن المؤشرات تدل أن الوضع المعاشي تدهور في البلاد في الفترة الأخيرة، واستندت الاحتجاجات الأخيرة على جملة من النواقص والثغرات، فواشنطن في معركتها مع كوبا اعتمدت «الكرّ والفرّ»، وكان أوباما عراب المرحلة الأولى، والتي حاولت واشنطن فيها إظهار النوايا الطيبة وخففت بعضاً من الضغوط على كوبا، مما غير من علاقة الأخيرة مع الخارج وفتح الأسواق أكثر، وإن كانت الأوضاع الاقتصادية قد شهدت «تحسناً» في هذه المرحلة، إلا أن القطع المفاجئ لهذا النشاط في زمن الرئيس السابق دونالد ترامب ترك أثراً سلبياً ملحوظاً في اقتصاد البلاد، فتقول التقديرات أن قطاع السياحة مثلاً والذي نشط في سنوات أوباما أغرق السوق المحلية الكوبية بالدولار الأمريكي، وخلق جملة من النشاطات الاقتصادية القائمة على الخارج والتي تضررت كثيراً مع إعادة فرض الحصار، الذي ضرب هذه المرة شركات الحوالات المالية والتي كانت تمد البلاد ببعض القطع الأجنبي القادم من المغتربين مما جعل الآثار السلبية السريعة صادمةً، بالإضافة إلى أن الفترة القصيرة للانفتاح كانت كفيلة بخلق شريحةٍ تعتاش منه، أي أن شكل الانفتاح سمح بتوسيع الدائرة المرتبطة بالخارج اقتصادياً بعد أن كانت شبه معدومة في سنوات الحصار الأمريكي.
يضاف إلى ما سبق أزمة فيروس كورونا والأعباء الاقتصادية الهائلة التي فرضت على الدول لتأمين الرعاية اللازمة لمواطنيهم، وعلى الرغم من الأداء المميز للسلطات في كوبا والتي نجحت في تطوير لقاحات الخاصة على المستوى الوطني، إلا أن الوباء ومع الحصار الشديد المرافق ترك آثاراً اقتصاديةً سلبية، وحمّل البلاد أعباء إضافية لم يكن بمقدورها تعويضها، مما انعكس بشكلٍ مباشر على الأوضاع المعاشية للسكان.
الدعم الأمريكي العلني للتحركات الاحتجاجية يشكّل خطراً مزدوجاً على كوبا فهو يضعها في موقع يزيد فيه من تأثر «الداخل» بـ «الخارج» من جهة، ويعرقل الشعب الكوبي في إيجاد مخارج من أزمته الحالية. الإجابة الدقيقة على ما يجري في كوبا تحتاج لمزيدٍ من البحث في طبيعة التغيرات التي جرت في كوبا في السنوات القليلة الماضية، والتي تركت آثاراً سلبيةً على الاقتصاد في البلاد، ويعد تراجع إنتاج السكر «أحد أهم المنتجات الزراعية الكوبية» مؤشراً خطيراً على طبيعة التغييرات الجارية، فقد تراجع المحصول بما يعادل الثلث منذ 2018 مما يؤكد وجود تغييرات سلبية انعكست بلا شك على السكان، ونحتاج أيضاً لفهم سلوك الإدارة الأمريكية الحالية، والتي حافظت على نهج ترامب في مخالفةٍ لتصريحات بايدن بخصوص تعامله مع كوبا، بل وزادت من حدة التصريحات ومن تدخلها في شؤون كوبا الداخلية، ما يمكننا فهمه على أنه محاولة لتجيير أمريكا الجنوبية لمصلحة واشنطن التي تعاني بشدة من تراجع وزنها على الساحة العالمية وترى أنها مضطرة لضخ المزيد من الأموال لقلب الأنظمة المعادية لها في أمريكا اللاتينية أملاً في تمتين مركزها وزيادة مواردها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1027