قراءة أولية في استراتيجية الأمن القومي الجديدة في روسيا

قراءة أولية في استراتيجية الأمن القومي الجديدة في روسيا

صادق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 3 تموز الجاري على استراتيجية الأمن القومي الجديدة للدولة الروسية، ليكون بذلك قد ألغى الاستراتيجية السابقة التي تبنتها روسيا في أواخر العام 2015.

تحتاج الوثيقة الجديدة وقتاً كافياً لدراسة التوجهات المعلنة من قبل روسيا، ولتلك المواضيع التي ترى موسكو تشابكها مع الأمن الاستراتيجي لروسيا الاتحادية، والأهم من ذلك هو: البحث في كيفية ترجمة ما جاء في الوثيقة الجديدة على أرض الواقع، وفي نشاط روسيا داخلياً وخارجياً.

في الداخل

تستعرض الاستراتيجية الجديدة استجابة روسيا للضغوط والعقوبات الغربية، وكيف استطاعت البلاد تخفيف الآثار السلبية لذلك، وتشير في السياق ذاته، إلى اعتماد سياسة تقليص الاستيراد في قطاعات الاقتصاد الرئيسية، وتأمين البدائل محلياً، وزيادة مستوى الأمن الغذائي وأمن الطاقة، وتذكر الوثيقة ضرورة تقليص الاعتماد على الدولار في مجمل الأنشطة الاقتصادية بما يضمن أعلى درجات الأمن الاقتصادي، بعد أن برهنت التجربة أن الدولار كان بمثابة رأس الحربة في الضغط على المعارضين والمتضررين من سياسات واشنطن على المستوى العالمي.

تحدثت الاستراتيجية عن ضرورة تحصين الجبهة الداخلية، فأشارت بوضوح إلى أن مجموعة من البلدان غير الصديقة «تستخدم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية في الاتحاد الروسي لتدمير وحدته الداخلية»، وعلى الرغم من صحة التوصيف إلا أن خطوط معالجة المشكلة لم تناقش في تفاصيلها، بل اكتفت الوثيقة بذكر بعض الأفكار بشكل شديد العمومية، مثل: «ضمان العدالة الاجتماعية، وتعزيز مكافحة الفساد وإساءة استخدام أموال الميزانية وممتلكات الدولة». إدراج مشاكل البنية الداخلية ضمن أولويات الأمن الوطني إنما يؤشر على تشخيص دقيق للمشكلة مع العلم أن التشخيص الدقيق لا يضمن تجاوزها، لكنه ينجز جزءاً من حلّها.

سياسة روسيا الخارجية

لفتت انتباه عدد من وسائل الإعلام الإشارة الصريحة إلى العلاقات مع الصين والهند، فاستراتيجية الأمن المعدلة تقول بضرورة إدراج التعاون مع الصين والهند على رأس قائمة أولويات الدولة الروسية في مجال السياسة الخارجية، وترى موسكو أن توسيع التعاون ذو الطابع الاستراتيجي بين كلٍ من الصين والهند يعتبر ركناً أساسياً في بناء آليات لضمان الأمن والاستقرار الإقليميين في منطقة آسيا والمحيط الهادئ. ويضمن تأمين محيط روسيا عبر إيجاد تفاهمات تساهم في تعزيز الاستقرار في المنطقة.

لم تغفل الوثيقة أيّاً من التهديدات التي يشكلها توسع الناتو في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، بالإضافة إلى الأحلاف التي تتشكل من الدول المعادية والقريبة من الحدود، مما يتطلب تطوير خيارات الردع الروسية بشكل دائم لضمان أمنها، وتأخذ الوثيقة بعين الاعتبار تدريب حلف الناتو على سيناريوهات استخدام السلاح النووي ضد روسيا، والمحاولات الغربية لتحويل المجال الفضائي والمعلوماتي إلى ميادين جديدة للقتال.

ملاحظات أولية

تشمل الوثيقة 44 صفحة تناقش بالتفصيل كل ما يقع ضمن نطاق الأمن الوطني في روسيا، لكن ما جرى ترجمته من الوثيقة حتى اللحظة، يثبت جملة من الاتجاهات التي بدأت بالظهور في روسيا، والتي يمكن تكثيفها عبر جملة من النقاط الأساسية:

• محاولات روسيا للانفكاك عن الغرب والتخلص من علاقات التبعية، لا يمكن أن تُنجز إلا عبر مواجهة مع الغرب، وإن هذه المواجهة تفرضها العقلية الغربية التي لا تستطيع قبول ظهور قوى جديدة على الساحة الدولية، تسهم بشكل كبير في التنمية العالمية، فظهور هذا النمط من القوى في العالم يهدد «قيادتهم غير المشروطة للعالم» ويبدو واضحاً بالنسبة لروسيا كغيرها من هذه القوى، أن الغرب مستعد لاستخدام كل الوسائل المتاحة بغض النظر عن مشروعيتها وتطابقها مع القانون الدولي.

• إن كان الهجوم يأتي من الأطراف الغربية والولايات المتحدة فيجب تقليل أثر الأدوات المستخدمة في هذا الهجوم، ويجري الحديث هنا عن جملة من الإجراءات، مثل: ربط الأمن الاقتصادي الروسي بتخفيض الاعتماد على الدولار الأمريكي، والرد على كل محاولات التوتير في المنطقة بالسعي لبناء علاقات تضمن الأمن والاستقرار لدول آسيا، والإشارة إلى كون بناء العلاقات مع الصين والهند على رأس الأولويات إنما يعني ضمناً: أن روسيا ترى تجاوز الخلافات الصينية- الهندية ضمن عناصر أمنها الوطني.

• تضع الوثيقة ضمن أهدافها تحقيق نمو اقتصادي في روسيا يتجاوز الوسطي العالمي، وإدراج هذا الطرح ضمن «استراتيجية الأمن القومي» في البلاد يتجاوز الآثار الاقتصادية لهذا النمو، ويستهدف النتائج السياسية إذا ما تحقق هذا الهدف، فروسيا تحجز لنفسها مقعداً ضمن الدول الأسرع نمواً في العالم، وترى أن تحقيق هذه المعدلات من النمو هو طريق إجباري أيضاً للحفاظ على «الشعب الروسي» ومنع تفتيت البلاد.

في العام 1997 أٌعلن عن أول وثيقة من هذا النوع في روسيا في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، وجاءت الوثيقة الأولى في ذلك الوقت تعبيراً موضوعياً عن تراجع روسيا في لعب دور على الساحة الدولية، مما أضر بمصالحها وأمنها القومي من جهة، وتعبيراً عن إمكانية تجاوز ذلك من جهة أخرى. وجاءت الوثيقة بمثابة خطة شاملة لترميم النواقص والانطلاق نحو مرحلة جديدة من التاريخ العالمي. فالوثيقة الأولى الصادرة في أواخر العام 1997 تنطلق من وجود فرصة لتشكيل عالم متعدد الأقطاب، وتلحظ الملامح الأولى لهذا العالم، وتدرك منذ البداية أن هذه العملية ستكون عملية طويلة وشاقة، بسبب سيطرة نمط محدد وسائد في العلاقات الدولية يقوم على استخدام القوة العسكرية. الأهم: أن هذه الوثيقة التاريخية أقرت أن هناك تطوراً في شكل العلاقات الدولية سيسمح للاتحاد الروسي بأن يضمن أمنه، ولكنه يفرض أيضاً، جملة من التهديدات التي سترافق تغيير مكانة روسيا في العالم، وصعوبات في تنفيذ الإصلاحات الداخلية التي قد تلعب دوراً حاسماً في نهاية المطاف. هذه اللمحة السريعة تؤكد دقة ما جاء في وثيقة تعود إلى أكثر من عشرين عاماً، وتؤكد أن روسيا استطاعت خلال هذه الفترة، التعامل مع جملة التحديات التي لحظتها باكراً، وتنجح حتى اللحظة باستشراف ملامح التطور اللاحق أملاً في الاستجابة السريعة للمتغيرات الدولية. وتعد هذه النزعة في روسيا جزءاً من نزعة عالمية سمحت لقوى كروسيا والصين والهند وإيران وغيرها من الدول النامية أن تفرض نفسها على الساحة الدولية، وأن تساهم في اتخاذ القرارات التي تمس مصالح شعوبها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1025