العراق: نيّة الحكومة في مكان والواقع في مكان آخر
منذ الحملة الأخيرة لإخراج القوات الأجنبية من العراق وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية، عاد تنظيم «داعش» للنشاط مجدداً في مسرحية يجري خلالها التذرع بالتنظيم الإرهابي لإطالة عمر التواجد الأمريكي بالتعاون مع أطراف داخلية، إلا أن النتيجة كانت ازدياد نسبة وحِدّة المطالب بالخروج الأجنبي في نهاية المطاف. وبينما تسعى الحكومة العراقية الحالية إلى التودد غرباً وخليجياً في الجوانب السياسية والعسكرية والاقتصادية، عبر المناورة على القرار البرلماني القاضي بإخراج القوات الأجنبية، وإيجاد بوابات استيراد للطاقة الكهربائية والغاز خليجياً، تصطدم بالوقائع وتنسحب نحو الشرق بغير رغبتها.
ضغوط نحو إخراج القوات الأجنبية
كان سقف ما صرّح به الأمريكي بعد كل الهجمات الموجهة على قواته وقواعده العسكرية في العراق، والاستهداف لأرتال الدعم اللوجستية لقوات التحالف الدولي قول المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية في الخامس من الشهر الجاري بأنهم سيردون «في الزمان والمكان اللذين نختارهما»، وليجري في اليوم التالي استهداف رتلين تابعين للتحالف الدولي في منطقتين مختلفتين في العراق.
وإثر هذه الهجمات أعلنت الشركة الأمريكية «مارتين لوكهيد» المشرفة على صيانة طائرات F-16 قرارها مغادرة العراق وقد صرّحت لـ RT بأن «موظفي الشركة الذين يبلغ عددهم أكثر من 80 موظفاً قرروا مغادرة العراق بسبب الهجمات التي تطالهم»، ومن ثم لتحاول الحكومة العراقية مفاوضة الشركة على بقائهم عبر إعادة تمركز الشركة في مكان آخر و«مؤمن» عوضاً عن قاعدة «بلد» الجوية.
وتحاول الحكومة العراقية الالتفاف على مسألة الخروج عبر الترويج بإبقاء القوات الأجنبية، وتبريره وتغطيته، بمسائل الدعم والتدريب والتعاون الاستخباراتي، ففي 18 من الشهر التقى رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي مع مساعد الأمين العام لحلف الشمال الأطلسي «الناتو» وجاء في البيان: الحكومة باسم الكاظمي، بحثوا «رفع مستوى قدرات العراق العسكرية ضمن أطر التدريب والمشورة وتطوير البنى المؤسساتية وغيرها» وأن «الحكومة العراقية تسعى إلى تعزيز العلاقات مع الناتو، وأهمية أن ترتقي إلى بداية جديدة ومثمرة تنحصر في المجالات غير القتالية» وكأنّ لحلف «الناتو» مجالات غير قتالية أساساً؟
أدى هذا السلوك الحكومي إلى رفع نسبة التصعيد السياسي والميداني المطالب بالخروج الأجنبي عبر زيادة الاستهداف العسكري لقوات التحالف، وصولاً إلى الاحتجاجات العراقية التي خرجت تضامناً مع الشعب الفلسطيني خلال الأسبوع الماضي، وجرى خلالها إحراق الأعلام الأمريكية والمطالبة بإخراجها. ليجري الكاظمي لقاءً آخر مع قائد القيادة المركزية الأمريكية، كينيث مكينزي، بغية دراسة كيفية انسحاب قوات التحالف الدولي من البلاد وآلياتها، وبآن واحد يعلن المتحدث باسم جهاز مكافحة الإرهاب العراقي، صباح نعمان، عن وضع إستراتيجية تمتد لـ«خمس سنوات» (!) لمكافحة الإرهاب في العراق، لم يجرِ خلالها استبعاد التعاون الاستخباراتي والعسكري مع القوات الغربية.
لتصدر فصائل «المقاومة» العراقية بياناً عن «تنسيقية المقاومة العراقية» تتوعدّ بالتصعيد ضد الاحتلال، جاء فيه: أن المسؤولين الأمريكيين يصرحون بأنه «لا جدولة قريبة لانسحاب قواتهم، وأن الحكومة العراقية هي التي طلبت منهم بقاءها، مع عدم صدور نفي من الحكومة الحالية لهذه التصريحات، وهو ما يدفعنا إلى القول بأن هذه الحكومة ليست صادقة، ولا مؤهلة، ولا قادرة على تحقيق إرادة الشعب العراقي» ويختتم بأن «عمليات المقاومة الجهادية مستمرة، بل ستأخذ منحى تصاعدياً ضد الاحتلال، وبما يجبرهم على الخروج مهزومين كما هزموا من قبل».
اغتيال نشطاء والتصعيد على إيران
خلال هذه التطورات جرى اغتيال أحد النشطاء العراقيين في الحراك التشريني، إيهاب الوزني، وتلته محاولة اغتيال للصحفي أحمد حسن، ولا يصعب على أحد البحث عمّن لديه المصلحة بذلك، والمتخوّف من الحراك العراقي منذ قيامه في 2019، وهو أولاً: منظومة المحاصصة العراقية وصانعها الأمريكي، ليجري تحوير هذه البديهية إعلامياً بوجه إيران، والتحريض والتعبئة عليها لينتج عنها هجومٌ على قنصليتها في بغداد، الأمر الذي انتقدته طهران بحدّة، وأكدت علانيةً ببيانٍ صدر عن سفارتها قبيل الاعتداء بأنها لم ولن تطلب اغتيال النشطاء العراقيين، وتدين «حادثة اغتيال الناشط المدني إيهاب الوزني».
لكن وعلى الرغم من التصعيد على إيران في العراق، ومحاولات حكومة الكاظمي تقليص التعاون معها عبر إيجاد بدائل عن استيراد الغاز والطاقة الكهربائية منها بالخليج مثالاً، إلا أنّ ذلك لم يفلح حتى الآن، بل وعلى العكس من ذلك، حيث استضاف العراق عدة جولات حوار بين إيران والسعودية في مسعى للتقارب بين البلدين الإقليميين المتخاصمين، والذي يعكس تغيّراً في موازين القوى الدولية أساساً بغير المصلحة الأمريكية، ولتستمر اللقاءات الثنائية العراقية- الإيرانية والعراقية- السعودية بعد ذلك للهدف ذاته.
«إس-400» على الطاولة
من جهة أخرى، أعلنت وزارة الصحة والبيئة في العراق عن إكمال تعاقدها لاستيراد لقاح «سبوتنيك-V» الذي كانت تجري محاولات عرقلته أمريكياً والاستعاضة عنه باللقاحات الغربية، ومن جهة أخرى، أكد نائب رئيس لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب العراقي، نايف الشمري، بأن حكومته ستتعاقد خلال الأشهر المقبلة لشراء منظومة دفاع جوي، وكان قد سبقت ذلك توقعات باستيراد العراق منظومة «إس-400» الروسية وكان منها صحيفة «وول ستريت جورنال» الأمريكية في مقال نشرته حول الأمر، نقلاً عن برلمانيين عراقيين بأن «الحكومة العراقية تدرس المضي قدماً بمناقشة شراء أنظمة إس-400» للدفاع الجوي، لكن وزارة الخارجية الأمريكية أعلنت أنها قد تفرض عقوبات عليها في حال قررت شراء الأنظمة الروسية.
لا تجدي- بالنتيجة- كل محاولات الحكومة العراقية للمضي بالاتجاه الذي ترغبه بالتوافق مع المصلحة الأمريكية، فلم تنهِ الاحتجاجات العراقية، ولم تنهِ التعاون مع إيران، ولا تزال الاتفاقات الاقتصادية الخليجية والمصرية بحدودها الدنيا ومعرقلة، وغير قادرة على الاستمرار بالالتفاف على القرار البرلماني بإخراج القوات الأجنبية، وأكثر من ذلك، يزداد التعاون مع روسيا والصين وإيران تدريجياً على حساب التراجع الأمريكي منها، ليكون الخطر الأكبر المقبل هو لحظة الخروج الأمريكي تلك، والتي اعتدنا أن يجري بلحظة مدروسة بمحاولة لإنتاج أكبر قدرٍ من الضرر والتوتير.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1019