التصعيد الأمريكي: محاولة عكس حركة التاريخ محكومة بالفشل

التصعيد الأمريكي: محاولة عكس حركة التاريخ محكومة بالفشل

ثمة تشابه كبير في الطريقة التي تؤجج فيها الإدارة الأمريكية التوترات على حدود كل من الخصمين الأساسيين لها، روسيا والصين، وهو تشابه يفسح المجال للافتراض بأن واشنطن تميل اليوم لأن تتعامل مع روسيا والصين بوصفهما «مشكلة واحدة» تحول دون فرض الهيمنة الأمريكية على النطاق الأوراسي.

تمثّل تطورات الأوضاع مؤخراً في كل من أوكرانيا وتايوان تجسيداً واضحاً لهذا النهج الأمريكي؛ حيث تتذرّع واشنطن بمزاعم مفادها أن روسيا والصين تهددان حليفتيها، الأمر الذي يوفّر بدوره ذريعة للولايات المتحدة لتصعيد خطواتها الاستفزازية، بما يدخل المنطقة في حلقة مفرغة من التصعيد تهدد بالخروج عن نطاق السيطرة إلى مواجهة كبرى غير محمودة العواقب.

التهديد الوجودي لنخبة الحكم الأمريكية

في غضون ثلاثة أشهر فقط من تنصيبه رئيساً للولايات المتحدة، حثّت إدارة جو بايدن خطاها في مسارٍ متهورٍ من التصعيد اتجاه روسيا والصين، وهو ما عزّز الفكرة القائلة بأن العداء الأمريكي ضد البلدين هو عداء منهجي مستمر رغم تغيّر الرؤساء، ما يثبت الطبيعة الحقيقية للسياسة الأمريكية، حيث الرؤساء يأتون ويذهبون، والانتخابات تجري دورياً، ولكن السلطة وصنع السياسات ممسوكان من النخب الحاكمة فعلياً والتي لا تكنّ ولاءً لحزب بعينه، بل تستفيد من مجريات «العملية الديمقراطية» داخل الولايات المتحدة لتعزيز الأهداف الإمبراطورية والامتيازات الأمريكية عالمياً.
بهذه الطريقة، شرع بايدن في حملة عدائية ضد موسكو والصين بوصفهما «تهديدان وجوديان». وأعقب ذلك أعمال عدائية مباشرة، بما في ذلك فرض عقوبات على روسيا بذريعة مشروع الغاز «السيل الشمالي 2» الروسي مع أوروبا، وعلى الصين بحجة مزاعم لا أساس لها من الصحة حول «الإبادة الجماعية» في شينجيانغ وهي المزاعم التي باتت مادة للتندر حتى في الصحافة الغربية.

أمر عمليات لنظام كييف

تتهم الولايات المتحدة روسيا بـ«العدوان» من خلال تكثيف وجود القوات العسكرية على الحدود مع أوكرانيا. ذلك في الوقت الذي ينتهك فيه النظام المدعوم من الولايات المتحدة في كييف بشكل يومي وقف إطلاق النار الهش في شرق أوكرانيا ويقصف المراكز المدنية ويصعّد الأزمة الإنسانية. بالمقابل، وإذ تشدد موسكو على رفض الادعاءات الأمريكية برمتها، أكد الكرملين هذا الأسبوع: أن تدهور الأوضاع الأمنية في شرق أوكرانيا (الدونباس) قد يلزم موسكو بوقف الهجوم الذي يتعرض له السكان في شرق البلاد.
وخلف التصعيد الأوكراني، يبدو التدخل الأمريكي جلياً، حيث إنه وخلال الشهر الماضي، كشفت إدارة بايدن عن توريد دفعة أسلحة جديدة بقيمة 125 مليون دولار إلى أوكرانيا. ويمكن النظر إلى ذلك على أنه «أمر عمليات» أمريكي للسلطة في كييف لرفض اتفاق مينسك للسلام لعام 2015، والضغط من أجل المزيد من تصعيد الحرب المستمرة منذ سبع سنوات، مما تسبب في مقتل أكثر من 13 ألف مواطن.

تهديد الصين من الجنوب

حتى الآن، يحافظ بايدن على توجه إدارتي ترامب وأوباما السابقتين للحشد العسكري بالقرب من أراضي الصين. وشهد هذا الأسبوع مرور رابع مدمرة أمريكية للصواريخ الموجَّهة عبر مضيق تايوان منذ تولي بايدن منصبه، وهو المضيق الذي يفصل جزيرة تايوان عن البر الصيني. وتايوان التي تعترف بها الغالبية العظمى من الدول بما في ذلك الولايات المتحدة حتى وقت قريب بوصفها جزءاً من أراضي جمهورية الصين الشعبية في ظل ما يسمى سياسة «صين واحدة» هي واحدة من أهم الجبهات التي تحاول واشنطن تأجيجها في وجه بكين، حيث يتعمّد بايدن اليوم، مثل سلفه دونالد ترامب، تقويض سياسة «صين واحدة» من خلال إرسال مسؤولين أمريكيين إلى الجزيرة في «زيارات رسمية»، وزيادة مبيعات الأسلحة، والإدلاء بتصريحات علنية أكثر استفزازاً بأن الولايات المتحدة «ستدافع» عن تايوان في حالة «غزو» القوات الصينية. وعلى غرار أوكرانيا، يعمل خطاب إدارة بايدن وسلوكها على تغذية موقف متشدد من جانب القادة التايوانيين، ومحاولة توريطهم إلى أقصى درجة ممكنة.

الصورة الأكبر لكل هذا التصعيد هي بطبيعة الحال الحسابات الجيوسياسية لدى واشنطن، التي يوضح محللوها أنها محكومة إذا ما رغبت بالحفاظ على قوتها وهيمنتها العالمية المتداعية بأن تمنع صعود روسيا والصين، وتظهير موازين القوى الجديدة التي تشكل لعنة بالنسبة للولايات المتحدة وسعيها الإمبريالي إلى الهيمنة أحادية القطب، فهذه الأخيرة ضرورية للحفاظ ما أمكن على الدولار كعملة تبادل عالمية، والتي بدورها حيوية لدعم الاقتصاد الأمريكي وللمنظومة ككل. ولا تستطيع الولايات المتحدة في ظل الأزمة التي تعتري نظامها السياسي أن تنافس الصعود الصيني الروسي. وعليه، ومن خلال المحاولات العبثية لعكس حركة التاريخ، تضطر الولايات المتحدة إلى اللجوء إلى زيادة النزعة العسكرية ضد من تعتبرهم أعداءها الرئيسيين، وتسريع هذه العسكرة مرتبط بالشعور المتزايد بأن الإمبراطورية الأمريكية في حالة زوال، وبهذا المعنى توفر أوكرانيا وتايوان للولايات المتحدة ما تعتبره فرصتها الأخيرة للتمسك بعالمٍ يختفي أمام عينيها.

ولا يحتاج الأمر إلى كثيرٍ من التفكّر للاستنتاج بأن تسريع التصعيد الذي تقوم به الإدارة الأمريكية لن يطول به الأمر ليتحول إلى تسريعٍ للحل، وتسريعٍ لتمظهر التوازنات الحقيقية الجديدة للقوى الدولية، ذلك أن حجم الأزمة التي تتعرض لها الولايات المتحدة لا يشير بحال من الأحوال إلى أنها قادرة على أن تكسب أية جولة من جولات التصعيد في المنطقة الأوراسية، التي يُظهر فيها الثنائي الروسي الصيني قدراً عالياً من الجدية في مواجهة بقايا النفوذ الأمريكي التاريخي فيها.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1014