الموقف السعودي المتشنج في مواجهة الدبلوماسية الروسية
مع انتهاء أعمال القمة الواحدة والأربعين لمجلس التعاون الخليجي، وما رافقها من صدور لما سمي بـ «بيان العلا» والذي أنهى معه نظرياً الخلاف الخليجي القائم منذ 2017، عادت جملة من القضايا إلى السطح، منها: آفاق المصالحة بين الرباعي العربي وقطر، والملف الأبرز، وهو الموقف الخليجي المعلن من إيران ومآلات هذه الأزمة.
عند نقاش مستقبل المنطقة يكون التوتر القائم في منطقة الخليج بين الدول العربية وإيران الملف الأبرز، وذلك لحالة عدم الاستقرار التي تتولد من هذه الأجواء المشحونة. لكن ومع إمعان النظر أكثر يتوضح أن الدور الأمريكي في منطقة الخليج كان ولا زال المولّد الأساس لأزماتها، ولا يمكن البحث عن مخارج جدّية دون بحث هذا الحضور الأمريكي الثقيل.
الأزمة الخليجية نموذجاً
تورّطت دول الخليج بتمويل جماعات متطرّفة، ودفعت عبر قنواتها الرسمية والإعلامية باتجاه التصعيد، وكان لهذا السلوك أثرٌ واضح على مجريات الأزمة السورية، لا نقول بالطبع أن دول الخليج كانت المساهم الوحيد في تعقيد هذه الأزمة، لكنها تتحمل مجتمعة مسؤولية لن يكون من السهل تجاهلها. لكن وبمباركة ودفعٍ أمريكي جرى وضع قطر منفردة في قفص الاتهام، بعد أن شكّلت هذه الأخيرة بوابة مرّ عبرها الدور الخليجي المسموم، لتنجح الولايات المتحدة، وبعد ضغطٍ سياسيٍ ودبلوماسي، في شق مجلس التعاون الخليجي، الذي انقسم أعضاؤه حول الموقف من قطر، وجرى التضيق عليها بشكلٍ كبير، ووضعت أمامها قائمة طويلة من الشروط فيما إذا رغبت بالعودة إلى «الحضن الخليجي».
حاولت الدول التي خاصمت قطر وشاركت في حصارها «السعودية– الإمارات– البحرين– مصر»، أن تبرهن على صحة موقفها، وقادت هجوماً مكثفاً ضد قطر بتغطية رسمية أمريكية و«تغريدات» داعمة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. لكن حصل ما هو متوقع، ورأت إدارة ترامب ضرورةً لإعادةِ ترتيبٍ جديد، مما وضع «الرباعي العربي» في موقعٍ مخجل، فتغير الموقف الأمريكي، وتركت الدول في خنادقها، وبدأ التحول السريع بقيادة أمريكية ومدعوماً بـ «تغريدات» الرئيس الأمريكي أيضاً، ولكن هذه المرة في الاتجاه المعاكس تماماً. فكان انعقاد القمة 41- ثمرة الضغط الأمريكي- بحضور قطر، ليجري «طي صفحة الخلاف»، و«إعادة الوئام» مجدداً إلى البيت الخليجي. وتجاهل قائمة الشروط التي وضعت أمام الدوحة لتطبيع العلاقات معها مجدداً.
التراجع المتسارع للولايات المتحدة والأزمة الخانقة التي تشهدها ينتج تخبطاً في سياستها الخارجية، وإن كانت في فترة من الزمن «قارب النجاة» للبعض، يتعلقون به ليسحبهم إلى اليابسة، فهي لم تعد كذلك، وتحديداً لأن الولايات المتحدة لا ترى الخلاص من أزمتها إلّا عبر الفوضى الشاملة، مما يجعل حضورها مولداً للأزمات لا العكس، وهذا لا ينطبق على الخليج فحسب، بل على عددٍ كبير من النقاط الحساسة في العالم.
الدور الروسي
رغم أن البيان الختامي لقمة التعاون الخليجي، جاء كما هو متوقع، محملاً بالهجوم على إيران، ودورها في المنطقة، إلا أن روسيا رأت في التطورات الأخيرة، وتحديداً مع المصالحة الخليجية، فرصة لإعادة طرح مبادرتها ودفعها إلى الأمام. وجرى الإعلان عن هذا الموقف عبر عدد من التصريحات والبيانات الرسمية، كانت آخرها ما قاله وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مؤتمرٍ صحفي عقده مع نظيره السعودي في العاصمة الروسية موسكو منذ أيام.
فأكد لافروف في حديثه وبعد أن استعرض مجالات التعاون بين المملكة السعودية وروسيا عن موقف بلاده الداعم لإجراء حوار مفتوح بين دول الخليج وإيران، بهدف الوصول إلى آلية مشتركة لحفظ الأمن، وأعرب عن تفهمه لمخاوف دول الخليج إزاء إيران، ولذلك ترى روسيا ضرورة لبدء نقاش المفهوم الروسي للأمن الجماعي في الخليج، والذي جرى تقديمه منذ سنوات. وقال لافروف: «إننا نتفهم مخاوف السعودية، لاسيما بشأن الوضع حول إيران.. ونتفهم أن السعودية قلقة إزاء ما يجري حول برنامج إيران الصاروخي، وتصرفات إيران المحددة في بعض دول المنطقة.. وتحدثا اليوم عن أن أجندة المؤتمر الذي نقترح عقده لبحث مفهوم الأمن الجماعي في الخليج قد تشمل كل هذه الأسئلة، بالإضافة إلى مخاوف الأطراف الأخرى، ومنها إيران». وحمّل وزير الخارجية الروسي مسؤولية إعاقة إطلاق الحوار بين إيران ودول الخليج إلى الولايات المتحدة الأمريكية، التي أذكت الصراع بين هذه الدول، وتسعى عبر سلوكها إلى الإبقاء على حالة التوتر القائمة أملاً في أن تنفجر الأمور، وتصل إلى الصدام المسلح بين هذه الأطراف.
آفاق التحول السعودي
عند الاستماع لحديث وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان، يبدو واضحاً تمسك المملكة بخطابها المكرور حول إيران، إذ اعتبر وزير الخارجية أن المطلوب من النظام الإيراني هو «تغيير فلسفته بشأن دوره في المنطقة»، والتوقف عن «نشر الخراب في المنطقة»، لكن وعلى الرغم من عدم وجود بوادر واضحة للتحول في السلوك السعودي، لا بد لنا أن نسأل عن الأثر التراكمي للتداعي الأمريكي الذي نشهده منذ سنوات، والذي يصل إلى مفصل حساس مع حالة الفوضى التي رافقت الانتخابات الرئاسية الأخيرة، وما سينتج عنها في الفترة القادمة. هل تملك المملكة السعودية مجالاً للقيام بهذه المناورات الخطرة؟ شكّلت المملكة العربية السعودية صمام الأمان للولايات المتحدة، فقد ضمنت منذ سبعينات القرن الماضي دعائم نظام البترو- دولار، لذلك لابد لنا من أن نقرأ بتمعن معنى التعاون المتزايد بين الرياض وموسكو ضمن منظمة أوبك+ والذي وصل في لحظات إلى خلافات سعودية أمريكية لم نشهدها في هذه الميادين الحساسة من قبل.
تراجع الولايات المتحدة المأزومة يدفع كل الدائرين في فلكها للبحث عن مخارج جديدة، لن ينتج عن عملية الانفكاك هذه تغيير فوري في السياسات الخارجية لهذه الدول، فلم يتوقع أحد أن يخرج وزير الخارجية السعودي من موسكو ليعلن نية بلاده التطبيع مع إيران. لكن وجوده في موسكو في ظل الضغط الشديد الذي تتعرض له المملكة، بالإضافة إلى محاولة روسيا توظيف كل ما يجري في الخليج ليصب في مكان وحيد، وهو إيجاد آلية أمن مشتركة تسهم في حل معظم نقاط التوتر القائمة حالياً من الخليج إلى اليمن والعراق وسورية، كل ذلك من شأنه أن يعطي ثماراً في وقتٍ قريب.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1001