السودان...  آثار التطبيع تفعل فعلها!

السودان... آثار التطبيع تفعل فعلها!

أقدم النظام السوداني القائم، الممتد من سابقه، على خطوة «التطبيع» مع الكيان الصهيوني، ملتفاً بذلك على موقف الشعب السوداني وقوى الثورة والتغيير فيه، مدفوعاً بمصالحه الخاصة التي تتعارض كلياً مع مصالح البلاد، مما بدأ بصنع وتشكيل فرزٍ واستقطابٍ سياسي أعلى وأعمق مما جرى خلال السنين الأخيرة.

لعل حيلة «المجلس العسكري» و«الحكومة الانتقالية» التي جرت صياغتها والعمل بها بعد تغيير بضعة وجوهٍ، منها: الرئيس السابق عمر البشير، وما نتج عنهما حتى الآن من استمرار للمشاكل الاقتصادية داخل البلاد، والضغوط المعيشية على السودانيين، والأزمة السياسية، وغياب الديمقراطية، وبالمختصر: إبقاء كل ما كان موجوداً قبل البشير، بل وازدياده سوءاً، تؤكد أن عملية «التغيير» الحقيقية المطلوبة، ليست للشعب السوداني وحده، وإنما لمختلف الشعوب المنتفضة منذ عقدٍ على الأقل، لا تتم بـ«إسقاط رأس النظام» أو «تغيير بعض الأسماء»، ومن جهة ثانية لا تجري تحت عناوين «انتقالية» ما لم يصاحب هذه العملية نشاط ديمقراطي حقيقي وعالٍ لا تشترك فيه القوى السياسية التقليدية والقديمة وحدها، وإنما الشعوب نفسها بقواها الجديدة والحيّة، لتفرض مطالبها ومصالحها دون فسح المجال لتلك القوى المضادة للتغيير بالتلاعب أو الالتفاف عليها.

نشاط سياسي جديد

إذا ما أردنا بشكل مكثفٍ ومختصر، توصيف الظرف السوداني الحالي، ما بعد البشير، ضمن الخطوط الرئيسية الثلاثة لعملية التغيير التي ينشدها السودانيون من «اقتصادية- اجتماعية وديمقراطية ووطنية»، فإن محاولة وأد الأخيرة عبر خطوة التطبيع بعد استمرار الانحدار في الأولى والثانية، لن تؤدي سوى إلى ردة فعل شعبية جديدة، وسياسية، بصرف النظر عن شكلها، نحو اقتلاع هذه المنظومة تماماً، وهو ما بدأت تظهر ملامحه اليوم.

فقبيل الخطوة تلك، أقيمت دعوات لتظاهرات مليونية رداً على سوء الأوضاع المعيشية، وخفض منسوب الديمقراطية، أما بعد إعلان التطبيع، فقد تعمّقت المسألة الوطنية، بهويتها وتاريخها ومستقبلها، داخل الحركة الشعبية والسياسية أيضاً، لتكمل بذلك «أركان التغيير» المطلوبة في الوعي السياسي الشعبي، ولتبدأ الحملات الرافضة للتطبيع بالظهور، حيث أعلنت عدة أحزاب سياسية ومنظمات أهلية وشبابية، يوم السبت، عن تكوين ميثاق «القوى الشعبية السودانية لمقاومة التطبيع» على الرغم من احتوائها بعض التيارات الانتهازية «المطبعة سراً» كـ«الإخوان المسلمين».

وبالتوازي مع ذلك، جرى الإعلان عن إطلاق ما سُمي بـ«حركة قاوم» التي تهدف إلى جمع مليون توقيع أولياً، رفضاً للتطبيع بين السودان والكيان الصهيوني.

ضرورة الفرز

على الجانب الآخر، فقد أصدر «تجمع المهنيين السودانيين» بياناً في 29 تشرين الأول، حول قيام الحكومة الانتقالية بتلك الخطوة، منتقداً إياها ورافضاً لها، إلا أنه يتضمن لبساً في مقدمته لما تحتويه من صيغة أقرب للـ«التساؤل» حيث ذكر فيه: «لم تتقدم الحكومة الانتقالية حتى الآن، وقد مضت أيام منذ الإعلان عن اتفاق التطبيع بينها وبين دولة (إسرائيل) ببيان حول مضمون ذلك الاتفاق، وأسبابه وحيثيات إقدامها عليه»، فعلى الرغم من تتمة البيان التي تعرّي وتهاجم دولة الاحتلال والولايات المتحدة بسياستهم ومصالحهم المعادية للشعوب وللسودانيين، بشكلها، إلا أن البعض رأى بالتساؤل ذاك نوعاً من التردد لا على «التطبيع» بعينه وإنما على «مضمونه»..

أما في متن نص البيان فقد جاء تخوفٌ من أثر الصفقة بدفعها نحو «مزيد من الانقسام وسط» قوى الشعب الثورية، على الرغم من أن هذا الأمر تحديداً، وفقاً للظرف السوداني اليوم، يعتبره العديد أمراً لا بد منه لإتمام عملية الفرز والاصطفاف الحقيقي بين القوى السياسية، بغية تمكن الشعب السوداني، بشكل حقيقي، على إيجاد أو إنتاج قوى سياسية تعبّر عنه فعلاً وبالشكل الملموس المباشر، وليس «انقساماً» بهيئته السلبية، وهو الأمر الذي يعيدنا إلى وجود التيارات الانتهازية في صفوف القوى الشعبية التي تحاول امتطاء تحركه ومطالبه لمصالحها الخاصة، التي لا تختلف كثيراً في جوهرها عن مصالح المنظومة القائمة وطموحاتها، ليكون «الانقسام» ذاك، بشكل أكثر صواباً: فرزاً واستقطاباً لا بد من حصوله، ليس ذلك فقط، وإنما الدفع به عملياً عن سبق إصرار، نحو إظهار الاصطفافات الثنائية الحقيقية بالمواقف والنشاط العملي اتجاه الخطوط الرئيسية الثلاثة بشكل مترابط، ومن ثم تمتين القوى الشعبية والثورية الحقيقية منها في جبهة موحدة بوجه أعدائها.

موقف الشيوعي السوداني

أصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني بياناً يوم السبت، أعلنت فيه عن انسحابه من تحالف «قوى الحرية والتغيير» بسبب إصرار البعض «على المساومة بين قوى الحرية والتغيير واللجنة الأمنية» متابعاً: أن الحزب «يقدم اعتذاره للشعب السوداني وقواه الحية عن الاستمرار في عضوية التحالف بعد هذه المساومة التي استمرت لتلد الاتفاق السياسي المشوه والوثيقة الدستورية المعيبة» ومؤكداً أن و«بعد أكثر من عام بعد تكوين هياكل السلطة الانتقالية ما زالت بلادنا تواجه ذات الأزمات وتعمل السلطة الانتقالية على تقليص مساحة الحريات، وتنتهك الحقوق في محاولة لوقف المد الثوري»، ومشيراً في النهاية إلى استمراره «العمل مع قوى الثورة والتغيير المرتبطة بقضايا الجماهير وأهداف وبرامج الثورة».

ورأى العديد، أن البيان يحتوي عملياً، خطوة دافعة اتجاه عملية الفرز تلك، وباتخاذ الحزب اصطفافاً واضحاً وجلياً بـ«الوقوف مع الجماهير وقضاياها» في مواجهة موجة التطبيع ومحاولات الالتفاف على مطالب السودانيين، بعيداً عن النزعات الانتهازية بركوب أية موجة، أو الحصول على مكاسب وحصص ما من النظام القائم، على غرار بعض القوى الموجودة- الآن وبشكل مؤقت- في صفوف الحركة الشعبية عموماً.

عن الغد

على الرغم من أن حملة «المليون توقيع» تلك- مثالاً- قد تبدو بلا جدوى فعلية بالنسبة للبعض، إلا أنها تعكس واقعاً ومزاجاً شعبياً عاماً لدى السودانيين من خطوة التطبيع، وهي وإن بدت ضئيلة الآن، فإنها وبكل تأكيد، بالتراكب مع عملية الفرز والاصطفافات الحقيقية، وبالوعي السياسي الشعبي الذي يجري اكتسابه وصقله من تجربة السودانيين المستمرة، ستتطور وتتمظهر بأشكال أكثر قوةً وتنظيماً وتأثيراً خلال الفترات القادمة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
991
آخر تعديل على الإثنين, 09 تشرين2/نوفمبر 2020 14:59